طالما أصدرت أحزاب المعارضة بيانها بعد طول انتظار أدانت فيه هجوم دولة جنوب السودان على هجليج وطالبتها بسحب قواتها فوراً من المنطقة، فإنه يتوجب على المؤتمر الوطني والحكومة تطوير هذا الموقف والكف عن التلاسن ومماحكة هذه الأحزاب إذا ثبت بالفعل أن بعضها مهادن ومخادن لدولة الجنوب ويسعى لزرع الفتنة وموالاة العدو .! وصحيح، لقد تأخر جداً بيان أحزاب المعارضة «قوى الإجماع الوطني»، لكن أن تأتي خير من أن لا تأتي.. والوقت ليس لتوليد المرارات والإحن والتخاصم، فهناك منطقة وسطى يمكن أن يلتقي حولها الناس جميعاً إلا من أبى أو كابر واعتصم في دخيلة نفسه المليئة بالغبن والأحقاد. وكانت هذه الأحزاب محل انتقادات واسعة من جميع الأطراف في الحكومة والصحافة وغيرها، ويبدو أنها رضخت لطوفان الرفض والغضب الشعبي الكبير لما حدث في هجليج، واختارت أن تقول كلمتها بالرغم من أن البيان حوى نقاطاً خلافية وفيه تعريض وتشنيع بحزب الحكومة وتحميله مسؤولية ما يجري في البلاد، إلا أن ذلك لا ينفي أن موقف هذه الأحزاب وهو الحد الأدنى المطلوب، فمن المستحسن التعامل معه وفتح أفق جديد للتعامل مع كل مكونات الشعب السوداني وتنحية الخلاف السياسي جانباً واستثمار فرص التوافق على هذا الحد الأدنى دون الإخلال بثابت الخط الوطني العام الذي يقف في صفه الجميع وفي محاذاته..! المطلوب من هذه الأحزاب أكثر بكثير من بيانهم هذا، وعليهم التقدُّم خطوات للأمام، ففي مثل هذه المواقف تنتفي وتتلاشى الخلافات والفواصل والحواجز السياسية والنفسية، فالوطن هو الركيزة التي يقف عليها الجميع، بلا تزيُّد ولا استفراد ولا إقصاء ولا استعلاء، فالذي يجمع أكبر من كل مثيرات الفتنة ومشهيات الخلاف التي تشق الصف وتضعف الإرادة الوطنية. على الحكومة البدء فوراً في إطار التعبئة العامة وصناعة اصطفاف قومي وراء القوات المسلحة والنظامية الأخرى التي تقود أشرف المعارك، ومد جسور التواصل مع كل مكونات العمل السياسي والقوى المجتمعية وعامة الشعب، والعمل معاً حتى عبور هذه المرحلة وتأمين حدود البلاد مع دولة الجنوب ورد كيد المعتدين. في مثل هذه المواقف، تتبدى قيمة المسؤولية الوطنية، وكل بلاد الدنيا التي تمر بها مثل ما نحن فيه يتم تناسي الخلافات وتطوى صفحات الشقاق ويعلو الحوار والهم الوطني فوق كل خلاف، وتتقارب المواقف وتتضامن حتى يخرج الوطن بكامله من ما هو فيه، ثم يعود كل إلى منصته ومكانه إن أراد.. وهذا حدث على مر التاريخ في كل الدنيا إلا إن كانت هناك أطراف خائنة أو متعاونة مع عدو أو موالية لمعتدٍ آثم ومتربص جاثم.. وهنا لابد من الإشارة إلى أن موقف أحزاب المعارضة مهما كانت درجة ملاءمته لما يحدث وتناقض بعض ما جاء في البيان، ومهما كانت مبررات أصحابه، فإنه بقعة من ضوء في نفق المباعدة السياسية التي كانت قائمة بين الحكومة والمعارضة، وعلى الحكومة توسيع وتكبير بقعة الضوء هذه، والتعامل معها على أنها سانحة لتخفيف حدة التخاصم والبغضاء السياسية.. مثلما على قوى المعارضة أن تذهب إلى الأمام خطوات في سبيل ذلك، ويذكر هنا أنه في ديسمبر من العام 1987م عندما سقطت مدينتا الكرمك وقيسان كانت المعارضة في البرلمان التي تمثلها الجبهة الإسلامية القومية آنذاك في مقدمة الصفوف تدافَعَ نوابها بالتبرُّع بسياراتهم ورواتبهم ومخصصاتهم للقوات المسلحة وذهب الكثير من هؤلاء النواب وقيادات من هذه المعارضة إلى مناطق العمليات مثلما كانت وفود المعارضة تذهب لمناطق العمليات في الجنوب، فالسياسة وخلافاتها ليست كلها فارعة الطول، تصل لسقف القضية الوطنية،، وهو سقف إن تعالت عليه لا خير في وطن بعدها ....!!