كان لاحتلال هجليج من قبل دولة الجنوب السودان أثر بالغ في تغيير طريقة تعاطي الخرطوم مع جوبا، حيث انقلب الحال من الحوار والتفاوض لينتهي الأمر إلى المواجهة و حسب الكثيرين فإن جوبا استفزت الخرطوم حتى أوصلت رئيسها الذي كان أول الداعين للتعامل مع جوبا بمبدأ المسؤولية الأخلاقية إلى القول«إما نحن في جوبا أو هم في الخرطوم». ويبدو أن حكومة الخرطوم التي مدت حبال الصبر للجنوب الذي بادر بالهجوم على هجليج في سابقتين غير متوقعتين سياسياً، لم يدر بخلدها أن الجنوب سيرتكب حماقة احتلال هجليج، وفي غضبته التي صنف من خلالها الجنوب دولة عدوة دعا المجلس الوطني لضرورة وضع إستراتيجية يتم من خلالها التعامل مع الأخيرة، وبدوره أعلن أمين الإعلام بالمؤتمر الوطني بدر الدين أحمد إبراهيم عن تشكيل لجنة يديرها رئيس كتلة نواب الوطني بالبرلمان د.غازي صلاح الدين لوضع إستراتيجية طويلة المدى للتعامل مع الجنوب ايضاً، حيث أبدى غازي تعجبه في مداولات المجلس من عدم إنشاء علاقات مع الأحزاب الجنوبية. ويرى مراقبون أن المطالب السابقة تشير إلى أن الحكومة في تعاملها مع جوبا لم تكن تحتكم إلى أي إستراتيجية أو رؤى محددة تتعلق بالقضايا العالقة وكيفية حلحلتها، ومن ثم التأطير لعلاقتها مع الجنوب وفق المصالح المشتركة، ومن الانتقادات التي وجهت للحكومة عدم استعدادها لاحتمالات الانفصال، حيث بدا أنها فوجئت بتوجه الحركة الانفصالي الذي أعلنته صراحة عقب زيارة رئيسها لواشنطون في سبتمبر 2010، وبالتالي وجدت نفسها وجهاً لوجه أمام حقيقة خروج النفط من الموازنة العامة، دون أن تكون قد احتاطت لمثل هذا الأمر، ومضت على ذات الدرب المتفائل بالتعامل الإيجابي مع جوبا لتضمن إيرادات رسوم عبور نفط الجنوب في الموازنة، لتفاجأ بالقرار الذي اتخذه الجنوب الذي غامر بإيقاف إنتاج النفط، رغم اعتماده الكامل على إيراداته. التساهل أو قصر النظر الذي أخذه عدد من المهتمين على الحكومة ومنهم الكاتب الصحفي د. خالد التجاني مرده قبول تنظيم الاستفتاء والقبول بنتائجه في ظل بقاء القضايا العالقة كما هي، دون استخدامه كورقة رابحة، لتجاوز تلك القضايا، وفي مقدمتها الارتباط العسكري المباشر بين قوات شمالية تقدر ب«40» ألف جندي والجيش الشعبي للجنوب، الشيء الذي أنتج عودة الحرب من جديد في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، ولاحقاً انضمام حركات دافور إليهم فيما عرف بتحالف الجبهة الثورية. وفي تحليله لمجريات الأحداث يرى الخبير الإستراتيجي د.عبد الوهاب عثمان أن التعامل مع الجنوب كان عفوياً في الفترة السابقة ولا يستند على إستراتيجية محددة، ويعود ذلك كما في إفادته ل«الإنتباهة» إلى أن وقائع الأحداث الراهنة لم تكن في الحسبان، باعتبار أن الجنوب كان جزءاً من السودان وأن قيادته كانت جزءاً من حكومته الكبيرة، ليضيف بأن ذلك خطأ من منظور علم السياسة، الذي يفترض التوقع بأن تتغير العلاقات يمكن أن يحدث تحت أي ظرف من الظروف، وأشار إلى موقف الخرطوم الجديد في علاقاتها مع جوبا، برفضها للحوار والتفاوض ما لم تحل ارتباطها المباشر بمكونات تحالف الجبهة الثورية، وتوقف أي اعتداء من قبلها على السودان. وعن الملامح التي يجب أن تشتمل عليها الخطة الإستراتيجية المزمع إعدادها حيال الجنوب يرى عبد الوهاب أنها لابد أن تشمل الاتفاق على القضايا المختلف حولها كالحدود والنفط، ومن ثم تتضمن خطوط واضحة لرسم مستقبل العلاقات بين البلدين، وأن يعي كل طرف ما هو المطلوب منه على الدقة. ومن جانبه وفي مقال منشور أوضح د.غازي الملامح الرئيسة لكسب الحرب على المستوى السياسي الإستراتيجي في خمسة مبادئ: اعرف عدوك واعرف نفسك، التمسك بقانون الأخلاق، توحيد الجبهة الداخلية واختراق جبهة العدو، بالإضافة لعزل العدو عن حلفائه والتوظيف الجيد للموارد واستنزاف موارد الخصم.. فهل تشكل هذه المبادئ الإطار العام لإستراتيجية السودان تجاه دولة جنوب السودان؟