أخيرًا استجاب أمين عام الحركة الإسلامية السابق، وأمين عام حزب المؤتمر الشعبي الحالي الدكتور حسن عبدالله الترابي للعلمانيين، ورضي في وضح النهار أن يحكم السودان بقوانين وضعية، بعد أن يئس على ما يبدو من قوانين السماء ورب السماء، خصوصاً بعد أن شاهد مشروعه الحضاري يسقط أمام عينيه، والترابي الذي ظل طوال سنوات حياته يقاتل من أجل الشريعة الإسلامية، الآن وعبر ممثله في هيئة أحزاب ما يسمى بالإجماع الوطني، المدعو كمال عمر، يرضى بلفظ مفهوم وواضح المعنى «الدولة المدنية الديمقراطية» والتي يعلم الإسلاميون جميعاً أنها اسم الدلع للعلمانية. فالأحزاب الشيوعية والقومية العربية وحتى التقليدية مثل حزب الأمة القومي تتوارى دائماً خلف هذا اللفظ ولا تريد أن تقول للشعب السوداني إن معنى هذا هو العلمانية. ولكن الشعب السوداني أذكى من هذه الأحزاب، وأذكى من الدكتور الترابي، فهو «يفهمها وهي طائرة» فالدولة المدنية هذه كان الإسلاميون ومنذ أمد طويل يقفون عندها، وحاربوا كبير المنظِّرين السيد الصادق المهدي، ووقفوا في وجهه لعدم تمرير هذا المفهوم، والصادق لأن أتباعه وقواعده هم أناس ملتزمون دينياً وأنصار لجده المهدي، وبالتالي هم لا يعرفون شيئاً غير الشريعة الإسلامية حكماً فهو حتى لا يقول لهم إنه يدعو إلى علمانية سياسية تحكم البلاد، يحاول أخذ مفهوم غامض «وهو الدولة المدنية»، ليمررها على بقية الأحزاب العلمانية، وليلتف حولها أمثال تلك القوى السياسية غير الذكية. والصادق المهدي لا يعلم أن أنصاره وأبناءهم وأحفادهم أصبحوا يدركون كل شيء، ويعرفون أن الدولة المدنية تعني العلمانية.. وإذا كان حزب الأمة القومي حزباً إسلامياً فيجب أن يقول صراحة: نحن مع دولة الشريعة الإسلامية، وفي الوقت نفسه يحاول الصادق المهدي عبر ابنته مريم الناشطة في تجمع أحزاب تحالف جوبا أن تمرر هذه اللفظة، وبالفعل استطاعت هذه المريم، ومعها فاروق أبوعيسى «دس السم في الدسم» ليجعلا الأمين السياسي للمؤتمر الشعبي كمال عمر يبصم بالعشرة ويمرر كلمة الدولة المدنية الديمقراطية «الدولة العلمانية» في الإعلان الموحد الذي ظهر قبل أكثر من أسبوع في الصحف. وشيوخ المؤتمر الشعبي نائمون في بيوتهم ولا يعلمون ما يحدث، يأتون فقط للمباركة، وفي الاتجاه الآخر ينجح العلمانيون والملحدون في جر المؤتمر الشعبي إلى مستنقعهم الآسن، وهنا يصدق المثل الذي يقول:«الكترة غلبت الشجاعة» فمهما يريد المؤتمر الشعبي أن يفعل أو يمرر شيئاً فلن يستطيع لأنه لوحده، فتجمُّع أحزاب المعارضة الحالي يخلو تماماً من حزب له مرتكزات إسلامية أو يقوم على برنامج إسلامي واضح، فالحزب الشيوعي السوداني ومعه الأحزاب القومية العربية والأحزاب التقليدية وحفنة من أحزاب «الفكة» التي لا يعرفها الشعب السوداني، أدخلها العلمانيون فقط لترجيح كفة قراراتهم ولتمرير أفكارهم في وقت توازن القوى بين الأحزاب الكبرى داخل التحالف، هذه كلها أحزاب علمانية، فكل هذه الأحزاب في كفة والمؤتمر الشعبي في كفة، فمن ينتصر ومن يستطيع أن يمرر أفكاره. وهناك أيضاً من يقول: «من عاشر قوماً أربعين يوماً صار منهم»، ويعني أنك حتى وإن كنت إنساناً غريباً وعاشرت قوما «40» يوماً فإنك ستتطبّع بطبائعهم بلا شك، وبعد قليل ستتبنى أفكارهم. وهذا ما حدث للمؤتمر الشعبي ولأمينه السياسي كمال عمر عبدالسلام، والآن مضى على انضمام المؤتمر الشعبي للقوى العلمانية سنوات وسنوات وليس أربعين يوماً فقط، فماذا يكون قد حدث لهذا الحزب؟ وكمال عمر الأمين السياسي وهو يرزح في دور هذه الأحزاب صباح مساء، وقيادات وممثلو هذا الأحزاب أفكارهم كلها علمانية، بل وأنها حاقدة على الإسلام السياسي وعلى الحركة الإسلامية، فكيف يكون حال هذا الرجل الغريب أصلاً على المؤتمر الشعبي وعلى الحركة الإسلامية. الأغرب ما في الأمر أنني تابعت في غضون الأسبوع الماضي تصريحات لهذا الرجل الغريب كمال عمر، لا يريد من خلالها نفي ما حدث وحتى أنه لا يرفض هذا المفهوم «الدولة المدنية» على رغم زلة الشيخ ياسين عمر الإمام أمام الكافة كما ورد في صحيفة الرائد بأن قال له «أنت مرفوت» ثلاث مرات، لا يريد كمال عمر أن ينكر ذلك، بل ظل يتمادى، ويريد استيعاب فكرة الشريعة الإسلامية داخل هذا المفهوم، وهو يشرح لهم بأن الدولة المدنية تعني المواطنة أو أن المدنية هنا لا نقصد بها العسكرية، وهو لا يعرف أن قواعد الحركة الإسلامية وقياداتها هم أساتذة في مثل هذه المفاهيم الغامضة. وكمال هذا أيضاً لا يتسق حديثه على ما نقل في الصحف قبل أسبوعين، وفي اليوم التالي للمؤتمر الصحفي لأحزاب العلمانية الوطنية عندما جاء في هذه الصحف أن هناك خلافاً بين المؤتمر الشعبي وبقية أحزاب جوبا حول هذا المفهوم، وأن المؤتمر الشعبي رفضه، وقال إنه لا يعرفه، ويعرف فقط الشريعة الإسلامية، كان ذلك الخبر الذي ورد في الصحف واضحاً، لكن الرجل كما ذكرنا عاشر هؤلاء القوم فصار منهم، بل وقال إنه لا خلاف مع الأحزاب حول العلمانية، وأكد قبول الكلمة على الرغم من تعنيف شيوخ الحركة الإسلامية له. وبذلك يكون المؤتمر الشعبي قد وقع في براثن العلمانيين الآسن بفعل أمينه السياسي وبرضاء من جماهيره وقياداته، وكأن الأمر لا يعني قيادات وقواعد هذا الحزب، فلا توجد ردة فعل قوية لا من القواعد ولا من القيادة حتى الآن مما يعني قبول الحزب لهذه الأفكار الشائهة والمضرة، وما نعلمه أن قواعد وقيادات هذا الحزب ملتزمة ولا تعرف «اللف والدوران» فقطاعاته المختلفة تستقطب الجماهير بمبدأ التمسك بالدين «الشريعة الإسلامية» ولكنهم لا يعلمون أنه اليوم أصبح شيخهم وأمينه السياسي يبيعونهم في«أسواق العلمانية ضحى»، وأنها لمهزلة حقيقية بمشاعر الإسلاميين، ويجب منذ الآن أن يمسح المؤتمر الشعبي من أدبياته كل إشارات التمسُّك بالدين لأن ثمرتهم في العمل مع القوى السياسية كانت في الحضيض، عندما تنازلوا عن تلك المبادئ السامية، وحتى الآن ما يكتب على الكتب من أطروحات أصبحت مجرد أقوال لا أفعال، فخدع أتباع المؤتمر الشعبي «شر خديعة» بعد ما حدث. وأقول إن على الإسلاميين الحقيقيين أن يقولوا كلمتهم الآن إما مع الشريعة والدين وإما أنهم مع حسن الترابي وكمال عمر، ويجب أن يقف هؤلاء وقفة قوية وأن يطالبوا بانسحاب الحزب من براثن العلمانيين وهذا التحالف اللعين أو أن يقدموا استقالات بالجملة ويبرئوا أنفسهم من هذا اللعب بأفكار الحركة الإسلامية. إن من يرضى بذلك لن يكون إلاّ علمانياً أصلاً، وهذه مناشدة قوية لتابعي هذا الحزب من الإسلاميين الحقيقيين بأن يقولوا كلمتهم أو الطوفان، ولا بد أن يوقفوا شيخهم من هذا العبث، فالشيوعي العجوز فاروق أبوعيسى ومريم الصادق نجحا في مهمتهما وانتصرا لقضيتهم وجعلا كمال عمر الإسلامي «نص كم» هذا الذي لا يعرف قيادات وقواعد الشعبي من أين أتى، يذعن لهم إما خوفاً أو رهبة أو عدم فهم، أو أنه تلقى تعليمات من إمامه بأن يبصم بالعشرة. فهذا الشخص المريب «كمال عمر» لعله لا يعرف كم من الشهداء فاضت أرواحهم إلى بارئها وهو يقاتلون عن الشريعة، وما زال يخادع ويتفنن في تصريحاته التي أطلقها في الصحف، والتي يقرأ أي حاذق بين سطورها معاني استجابة أو إذعان للعلمانيين القدامى والجدد. إنها المهزلة أيُّها الشعبيون، وأيُّها الناجي عبدالله المجاهد الكبير، كيف تترك مثل هذا الكمال «الأتاتورك» يذهب بقيم إخوانك الشهداء ويضيعها وسط زحام من كنت تقاتلهم في السابق من الشيوعيين ومن حالفهم. وأين الشيخ ياسين عمر الإمام الذي ذهب ابنه أبو دجانة شهيدًا وهو يقاتل المتآمرين على الشريعة والوطن. إن هذا الأتاتورك كمال الذي نزع تركيا قيمها وقضى على الدولة العثمانية في السابق، أرى أنه تتكرر منه نسخة في السودان الآن، فيوجد هنا كمال عمر الذي يريد أن يقصم ظهر الإخوان بما فهم أنه علمانية صريحة. ختاماً أرسل رسالة لقواعد وقيادات المؤتمر الشعبي أن يتصدوا لهذه المهزلة وأن يخرجوا من هذا الحزب الذي يسير في اتجاه غير الذي يرغبون فيه إلاً، وأنهم سيكونون مأثومين، وبعد هذا الجدال هل يقبل الحزب بالعلمانية أو يرفضها، نرى أن هذا الحزب قد انتهى، فكان المتوقع منه أن يقول إنه مع دولة الشريعة صراحة، ولكن ما حدث مخجل ومؤسف.