لقد جاءت الحركة الإسلامية ليلة الثلاثين من يونيو عام 1989م لإنقاذ السودان. وأحسبها كانت صادقة في نواياها.. في ذلك الحين.. والدليل على صدق نواياها أنها تسمّت بالإنقاذ.. وأنها مضت سنواتها الأولى تحاكي جاهدة أقوال وأفعال الصحابة.. ولكن بعد السنوات الأولى بدأت الأحداث والحوادث والوقائع يأخذ بعضُها برقاب بعض. لم تكن السلطة حتى بعد حوالى سبع أو ثماني سنوات تستهوي أحداً.. حتى زعيم الحركة الإسلامية التاريخي رضي أن يكون فرداً من رعايا الضابط الذي وقع عليه الاختيار ليكون رئيساً للسودان. ولكن بعد سبع أو ثماني سنوات بدأ الزعيم التاريخي يتململ.. وكان للململة أعراض.. يفهمها البعض ويجهلها البعض.. والهمس الذي كان يدور لم يكن يصدقه أحد.. ولكن الهمس بدأ يتحول إلى تذمر وإلى نقة.. وإلى احتجاج.. وأوشك أن يتحول إلى مواجهة.. وأصبحت رغبة الزعيم التاريخي في حصد استحقاقات الزعامة التاريخية بندًا حاضراً في كل نشاطات وبرامج الإنقاذ وفي أجندتها.. بالرغم من أنه لم يكن بنداً مكتوباً.. وبدأت العدوى تسري.. وجاءت حادثة خلافة النائب الأول وجاءت مذكرة العشرة.. وذر الخلاف قرنه.. وانتشر الداء وحدثت المواجهة والمفاصلة.. هناك مقولة متداولة بين الحداثيين والعصرانيين من مثقفي وسياسيي هذا الزمان وهي «إن الشيطان يكمن في التفاصيل». وهي تعني أن الناس قد يتفقون في الكليات وفي الأصول ولكنهم يختلفون في الفروع والجزئيات. وهي مقولة باطلة وساقطة وتدحضها كثير من الشواهد والأدلة النقلية والعقلية ومن هذه الأدلة مقولة «نية المرء خير من عمله» والنية هي أم الكليات والعمل فرع من فروعها ومن فروع الإيمان. وكذلك يبطلها قوله صلى الله عليه وسلم «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة». وقول لا إله إلا الله هي أكبر كليات الإيمان.. ومن قالها دخل الجنة.. وإن زنى وإن سرق .. وإن زنى وإن سرق. ويدحضها قوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع لكل من سأله عن أمر من أمور الحج «ارم ولا حرج» «قصر ولا حرج» «طف ولا حرج». ويدحضها قوله صلى الله عليه وسلم «الحج عرفة» فمن لم يقف بعرفة بالكيفية التي شرعها الشارع فلا حج له مهما فعل ومن وقف بعرفة حجه صحيح ويجبر ما عدا عرفة بالدم وليس أدل على ذلك من الذي حدث لأهل الإنقاذ.. فلما لم يختلفوا في أمر الطاعة والولاية لم يكن الشيطان داخلاً بينهم.. وسارت فروع الحكم وتفاصيله بلا كبير عناء.. ولم يدخل الشيطان فيها.. ولكن ما إن اختلفوا في أمر الطاعة والولاية حتى حشر الشيطان أنفه بينهم.. وكانو بداية التدهور والانحدار. وقبل أن يختلفلوا في أصل أصول الحكم.. لم يدخل الشيطان بينهم.. ولكن بعد اختلافهم ساقهم سوقًا وقادهم طوعاً وبدأ يمارس معهم أساليبه وألاعيبه وأفانينه وأجانينه.. وأصبحت الولاية مهما صغرت وحقرت هي الفيروس الذي يحقن به الشيطان دم أحدهم ليغيّر تركيبه ويفسده على صاحبه وعلى أهله وأصدقائه فيصبح غريباً عليهم جميعاً ويتحصن عنهم بكل ما أتاحته له حضارة الشيطان أو لوازم الوظيفة أو مغريات الرتبة أو أوهام الولاية. إن الشيطان قد دخل في كليات الحكم كلها.. ولم يهتم بالتفاصيل.. بدأ بالبيعة.. ثم مر على عقيدة الولاء والبراء.. ثم ولاية غير المسلم.. وأدخل شيئاً سمّاه المواطنة.. ثم جاء بشيء سمّاه تمكين المرأة.. وأوعز لهم بخطيئة اسمها الديموقراطية وجعلها أشبه بشجرة الخلد والملك الذي لا يبلى.. وزين لهم توسيع قاعدة المشاركة حتى أصبح من وزراء الدولة اليساريون والعلمانيون والليبراليون وعزل عنها وأبعد السلفيون.. والحركيون.. والأصوليون.. والإسلاميون.. حتى كأن الإنقاذ أصبحت تخجل من العمائم واللحى.. وانظر إلى حملة العلم الشرعي في الرئاسات والولايات والوزارات.. فلا تكد تجد منهم واحداً بل لو أن واحداً من الإسلاميين برع ونبغ في باب من أبواب العلم الشرعي أو من أبواب السياسة الشرعية حتى اشتهر بها لما ولته الإنقاذ على اثنين ولو كان يحمل درجة الأستاذية في الكيمياء النووية أو في النسبية أو في الGeo-Physics ولن يجد له موقعاً إلا في هيئات التدريب في الجامعات أو في المجامع الفقهية حيث يحق له أن يصدر فتوى ليست ملزمة لأحد.. ولا يطلبها منه أحد.. إن الإنقاذ لا تعطي الوزارة إلا لمن يطلبها.. وهل هناك طلب للوزارة أبلغ وألح من التمرد.. والطعن في «المشروع الحضاري» أليس أفضل وأخف وقعًا من القول بالطعن في الشريعة؟ ثم الانتساب إلى القبيلة أو الانشقاق من الحزب الأصل. وجاءت الحركة الشعبية.. وجاءت تمثل التمرد.. والقبلية والطعن في الشريعة «هؤلاء لا يعرفون شيئاً اسمه المشروع الحضاري» وتدعو إلى المساواة المطلقة بين الإسلام والنصرانية في الاستحقاق السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي وجاءت الحركة بمجموعة من الوزراء أحكموا القبضة على عدد لا يستهان به من المواقع والوزارات السيادية «في الشمال» النائب الأول والخارجية ورئاسة مجلس الوزراء ونائب رئيس المجلس الوطني وما لا يحضرني الآن.. كل ذلك لأن الشيطان لا شأن له بالتفاصيل.. إنه يفعل فعلته في الأصول والكليات والمسلمات حتى لا يكون هناك أصول ولا كليات ولا مسلمات.. من أجل ذلك غرقت الإنقاذ في شبر ماء اسمه الحركة الشعبية.. وحتى بعد انقشاع غمة اسمها الحركة الشعبية.. وحضيض اسمه نيفاشا لم تزل الإنقاذ أسيرة وهم اسمه الحريات الأربع والمواطنة.. فهل أيقظتها من سباتها هجليج أم مازالت في ذات الوهم والغفلة.