سراديب الأنظمة المغلقة لا حدود لها. ففي النظام المالي والإداري المصري عالم آخر مسكون بالغموض ومسكوت عنه اسمه «الصناديق الخاصة». وهي الأوعية المساعدة المشكلة بالمخالفة لقواعد الموازنة العامة التي تقرر وحدتها وعموميتها. بمعنى أنها منفصلة عن الموازنة العامة، كما أنها تنشأ لأغراض محددة وليس لغرض عام. وقد أثير اللغط حول تلك الصناديق منذ عصر مبارك ولكن مراكز القوة والانتفاع منها حالت دون حسم المسألة وقطع الشك إزاءها باليقين. وهو ما حاولت أن تتصدى له لجنة الخطة والموازنة في برلمان الثورة، التي تتبعت الموضوع. وأعدت تقريرًا كشف عن المعلومات التالية: إن أعداد تلك الصناديق ليس معروفًا على وجه الدقة، لأنها منتشرة كالفطر في مختلف الوزارات والهيئات ووحدات الحكم المحلي، فوزارة المالية قدرتها ب«4737» صندوقًا في حين أن بيانات الجهاز المركزي للمحاسبات ذكرت أن مجموعها 6361 صندوقًا. والفرق كبير بين الرقمين. الفرق في العدد أحدث فرقًا طبيعيًا في حجم الأرصدة المالية التي حددتها كل جهة. فالمالية ذكرت أن مجموع أرصدة الصناديق يصل إلى 36 مليارًا و100 مليون جنيه. أما جهاز المحاسبات فيتحدث عن أرصدة بقيمة 47 مليارًا و400 مليون جنيه، بفرق يقدر بأكثر من 11 مليار جنيه بين الرقمين. إن تعديلاً قانونيًا صدر في عام 2006 يلزم الجهات التي أنشأت صناديق خاصة بها أن تودع حصيلة تلك الصناديق في حساب الخزانة الموحد. لكن 442 صندوقًا لم تلتزم بذلك، وقد قدرت حصيلتها بنحو 8 مليارات و800 مليون جنيه. إن وزارة الدفاع وهيئة الأمن القومي لها صناديقها الخاصة، التي قدرت حصيلتها في العام المالي الأخير بمائة مليار جنيه، وكانت القوات المسلحة قد أقرضت الموازنة العامة في العام المالي الأخير بما يعادل 12 مليار جنيه «كانت الصحف قد تحدثت عن مليار واحد قدمته القوات المسلحة إلى الموازنة العامة». «للعلم: تحدثت مواقع الإنترنت عن أن القوات المسلحة لديها 4000 شركة تعمل في مختلف المجالات الإنتاجية. وهى معفاة من الضرائب إلى جانب أن ما تستورده خاضع للإعفاء الضريبي أيضًا. علمًا بأن العاملين في تلك الشركات من أفراد القوات المسلحة الذين يتقاضون رواتبهم في الموازنة العامة». «من المعلومات التي ترددت على هامش الموضوع أن جامعة المنوفية أقامت 49 وحدة ذات طابع خاص. وأن صندوق توزيع الخبز بالمحافظة حقق في العام الماضي إيرادات قيمتها أربعة ملايين جنيه، وتم توزيع مليونين منها كمكافآت لكبار الموظفين. من الملاحظات التي رصدت حين أثيرت القضية في مجلس الشعب أن بعض الجهات المنتفعة بالصناديق الخاصة سارعت إلى محاولة استهلاك ما لديها من أرصدة لتحقيق أكبر قدر من الانتفاع بها في محيطها، ولكي لا تذهب إلى خزينة الدولة. حين تحدثت إلى أهل الاختصاص في الموضوع قالوا إن عالم الصناديق الخاصة يحتاج إلى مراجعة شاملة، أولاً للتثبت من حجمه وثانيًا للحفاظ على ما حققه من مرونة وما خلقه من نتائج مسَّت أوضاع عشرات أو مئات الآلاف من العاملين وثالثًا لسد منافذ الفساد وسوء الاستغلال التي برزت مع إنشاء تلك الصناديق، حتى إن جميع المحافظين ثاروا ثورة عارمة ضد وزارة المالية حين وزعت منشورًا دعت فيه إلى عدم صرف أية مبالغ إلا في الأغراض التي خصص لها كل صندوق. وهو ما ذكره الدكتور حازم الببلاوي وزير المالية الأسبق في كتابه الذي سجل فيه تجربته حين كان عضوًا في الحكومة. إننا نتحدث عن مليارات تتحرك بعيدًا عن خطط الدولة ومصالحها العليا فضلاً عن رقابتها، الأمر الذي يفتح الباب لمزالق كثيرة. ورغم أية إيجابيات حققتها تلك الصناديق للعاملين، فإن ذلك الوضع المختل لا ينبغي له أن يستمر في الظروف العادية، فما بالك بظروف بلد مثل مصر يمر بضائقة اقتصادية خانقة. إننا بصدد قضية شائكة ودقيقة، يتطلب تناولها خليطًا من الشجاعة والحزم والحكمة.