لا ريبَ أنَّ الرحمةَ مِن أعظمِ الصِّفاتِ في الوُجُود، حتى سَمَّى الله عز وجلَّ بها نفسَه الشريفَةَ ووصفَ بها ذاتَه الكريمة في مَواضِعَ عدةٍ من التنزيلِ الحكيم؛ فقال عزَّ وجَلَّ: «تَنْزِيلٌ مِن الرحمنِ الرحيم». وقال تعالى عن كِتابِه العزيز: «ولقد جِئناهم بكتابٍ فصَّلْناه على عِِلمٍ هُدىً ورحمةً لقوم يؤمِنُون)»، وقال سبحانه في صِفَةِ نبيِّنا محمد عليه الصلاة والسلام:«(وما أرْسَلْناك إلا رَحْمةً للعالَمِين». والرحْمةُ هِبَةٌ مِن الله للعَبد؛ فإنَّ الله عزَّ وجلَّ هو الرحمنُ الرَّحِِيمُ المنعِمُ المتفضِّلُ بكلِّ أنواعِ الرحمةِ. وكلُّ خَيرٍ يُصِيبُهُ العبدُ فمن رحمةِ الله، حتى ما يتقرَّب به العبدُ إلى ربه؛ فمَرَدُّه إلى رحمةِ الله وفَضلِه؛ لِشِدةِ حاجةِ العبدِ إلى التوفيقِ والتيسيرِ والتسديدِ، كما قال الله عزَّ وجَلَّ: «وما بكم من نعمة فمن الله»، وقال جلَّ جلالُه: «فبما رَحمةٍ مِن الله لِنْتَ لهم ولو كُنتَ فظاً غليظَ القَلبِ لانفَضُّوا مِن حَولِك». فالوِقايةُ والحفظُ مِن السيئاتِ.. من رَحْمَةِِ الله وحدَه، كما قالت ملائكةُ الرحمن وهي تستغفر للذين آمنوا «وقهم السيئات ومن تقِ السيئات يومئذ فقد رحمتَه وذلك هو الفوز العظيم». والعِصمةُ رحمةٌ من عند الله؛ وليست لأحدٍ إلا الله عزَّ وجل، كما قال نوح عليه الصلاة والسلام لابنه حين قال: «سآوي إلى جبلٍ يَعصِمُني من الله قال لا عاصِمَ اليومَ مِن أمرِ الله إلا مَن رَحِم». وصلَّى الله وسلم على نبيِّ الله يوسف فقد قال وهو المعصومُ: «وإلا تَصْرِفْ عني كيدَهن أصْبُ إليهن وأكُنْ من الجاهِلِين فاستجابَ له ربُّه فصرفَ عنه كيدَهن إنه هو السميع العليم». والنجاةُ مِن سَخطِ الله والإجارة من عذابِه.. رحمةٌ من الله دون سواه، كما قال الله عز وجل: «قل إني أخاف إنْ عَصيتُ ربي عذابَ يومٍ عظيمٍ من يُصْرَفْ عنه يومئذٍ فقد رَحِمَه وذلك الفوزُ المبين». وقال جلَّ جلاله: «قل أرأيتم إنْ أهلَكنِيَ الله ومَن مَعِيَ أو رَحِمَنا فمَن يُجِيرُ الكافرين مِن عذاب أليم». وكَشفُ الضُّرِّ رَحْمَةٌ من الله، كما قال الله عزَّ وجلَّ: «ولو رَحِمْناهم وكشَفْنا ما بِهم من ضُرٍّ لَلَجُّوا في طُغيانِهم يَعمَهُون». وقال سبحانه: «وإنْ يَمْسَسْك الله بِضُرٍّ فلا كاشفَ له إلا هو وإنْ يَمْسَسْك بِخَيرٍ فهو على كل شيءٍ قدير»؛ وقال جلَّ جلاله في سياق الامتِنان: «أمَّنْ يُجِيبُ المضْطرَّ إذا دعاه ويَكشِفُ السُّوءَ ويَجعلُكم خُلَفاءَ الأرضِ أإلهٌ مع الله قليلا ما تَذَكَّرُون». ومَغفِرةُ الذنوبِ.. رَحْمةٌ من عند الله؛ ليست لأحدٍ سواه تبارك وتعالى، كما قال أبونا آدم عليه السلام: «ربَّنا ظلَمْنا أنفُسَنا وإنْ لم تَغْفِرْ لنا وتَرْحَمْنا لنكونَنَّ مِن الخاسِرِين». وقال نوحٌ عليه السلام: «وإلا تَغفِرْ لي وتَرْحَمْنِي أكُنْ مِن الخاسرين». وقال قومُ موسى عليه السلام لما سُقِط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضَلُّوا«لئن لم يَرْحَمْنا ربُّنا ويَغفِرْ لنا لنكونن من الخاسرين». وقال عز وجل: «يُعَذِّبُ مَن يشاء ويَرحَم من يشاء وإليه تُقلَبُون وما أنتم بِمُعجِزِين في الأرضِ ولا في السماءِ وما لكم مِن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ ولا نَصِير». وما أحسنَ ربطَ النبي عليه الصلاة والسلام رحمةَ المخلوق برحمةِ الخالق، ورحمةَ الدنيا برحمةِ الآخرة كما روى البخاري عن عمر رضي الله عنه قال: «قدم على النبي عليه الصلاة والسلام سَبْيٌ، فإذا امرأةٌ من السَّبْيِ تحلب ثديَها تسقي إذْ وَجَدت صبياً في السَّبْيِ؛ فأخذته؛ فألصَقَته ببطنِها وأرضَعَته، فقال لنا النبي عليه الصلاة والسلام: أتُرَون هذه طارحةً وَلَدَها في النار؟ قلنا: لا وهي تقدرُ على أن لا تطرحَه. فقال: الله أرحَمُ بعبادِه من هذه بولدها»! وشتان بين رحمةِ الخالق ورحمةِ المخلوق! كما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «جعلَ الله الرحمةَ في مائة جُزء. فأمسك عندَه تسعةً وتسعين جزءاً. وأنزلَ في الأرض جزءاً واحداً. فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق؛ حتى ترفع الفرسُ حافرَها عن وَلدِها خَشيةَ أن تُصِيبَه». ومِن أعظمِ الرحماتِ تفريجُ ما يكونُ يومَ القيامة من الكُربات، كما قال عليه الصلاة والسلام: «من نَفَّسَ عن مُسلمٍ كُرْبةً من كُرَبِ الدنيا؛ نفَّسَ الله عنه كُربةً من كُرَبِ يومِ القيامة» والناسُ أجمعون مَحبُوسون في العرصات، كما روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «يَدنُو من أحَدِكم ربّه حتى يَضعَ كَنَفَه عليه فيقول: عملتَ كذا وكذا، فيقول نعم. ويقول: عملتَ كذا وكذا. فيقول: نعم. فيقرِّرُه ثم يقول: إني سترتُ عليك في الدنيا وأنا أغفِرها لك اليوم» وفي رواية: «أتعرف ذنبَ كذا وكذا؟». وقد وردَ في حديث أبي ذرّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «إني لأعلَمُ آخِرَ أهلِ الجنّة دُخُولاً الجنّة وآخر أهل النار خروجاً منها، رجل يؤتى به يوم القيامة. فيقول: اعرضوا عليه صغار ذنوبه. فيقال: عملتَ يوم كذا وكذا، كذا وكذا؟ وعملتَ يوم كذا وكذا، كذا وكذا؟ فيقول: نعم، لا يستطيعُ أن ينكرَ وهو مُشفِقٌ مِن كِبارِ ذُنوبِه أن تُعرَضَ عليه. فيقال له: فإنَّ لك مكانَ كلِّ سيئةٍ حَسنةً! فيقول: ربّ قد عملتُ أشياءَ لا أراها هاهنا. فلقد رأيتُ رسولَ الله عليه الصلاة والسلام ضَحك؛ حتى بدَت نَواجِذُه». وفي حديثِ ابن مسعود في «الرجلِ الذي ترفَعُ له شجرةٌ فيسأل الله أن يُدنِيَه منها على أن لا يسألَه غيرَها، فإذا أدناه منها سأله غيرها مرّتين، حتى» ترفع له شجرة عند باب الجنّة هي أحسن من الأوليين. فيقول: أي ربّ أدْنني من هذه لأستظل بظلها وأشرب من مائها لا أسألك غيرها. فيقول: يا ابن آدم ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟ قال: بلى يا ربّ هذه لا أسألك غيرها. وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه منها. فإذا أدناه منها فيسمع أصوات أهل الجنّة فيقول: أي ربّ أدخلنيها. فيقول: يا ابن آدم ما يَصْرِيني منك؟ أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها. قال يا ربّ أتستهزئ مني وأنت رب العالمين. فضحك ابن مسعود فقال: ألا تسألوني ممّ أضحك؟ فقيل: ممّ تضحك؟ قال: هكذا ضحك رسول الله عليه الصلاة والسلام فقالوا: ممّ تضحك يا رسولَ الله؟ قال: مِن ضحكِ ربِّ العالمين حين قال: أتستهزئ مني وأنتَ ربُّ العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزئ منك؛ ولكني على ما أشاء قدير».