التاريخ يعيد نفسه في أقل من بضع سنين، نفس الخدعة يعاد تسويقها مرة أخرى، نفس التكتيك يعاد استخدامه ضدنا في تكرار غريب لم يشهد له التاريخ الإنساني مثيلاً ولا شبيهاً، تكرار يعلّم «الشطّار»، تكرار لم يملوه هم ولم نمله نحن، لم ننسَ من تفاصيله وفصوله شيئاً، ولكننا لم نتعلم منه شيئاً ولم نتعظ ولم نعتبر به بل حفظناه «صم» دون فهمه أو استيعابه! ما أشبه الليلة بالبارحة!!، فعندما كانت القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى والدفاع الشعبي تحقق الانتصار تلو الانتصار على الحركة الشعبية في جنوب السودان في صيف العام 2002م وتطارد فلولهم وبقاياهم وتطردهم من المدن الجنوبية حتى كانت قاب قوسين أو أدنى من تنظيف الجنوب منهم، فإذا بالجهات التي تقف خلف التمرد بالدعم والمساندة تتدخل وتعتلي المسرح من أجل إنقاذه تحت غطاء «السلام»، فكان بروتوكول «مشاكوس» الذي تم التوقيع عليه في «20» يوليو «2002» في كينيا وقد كان هذا البروتوكول طعماً ابتلعته الحكومة، فإذا بالفأرة «مشاكوس» تتمخض فتلد جبل «نيفاشا» الثقيل، الذي جثم على صدر السودان فكتم أنفاسه، فتحولت تلك الانتصارات في الميدان إلى «هزائم» على موائد التفاوض وعلى بنود ذلك الاتفاق الذي كان بمثابة طوق النجاة الذي أنقذ الحركة الشعبية من الغرق وهي في رمقها الأخير، ورغم توقيع بروتوكول مشاكوس إلا أن شيمة الغدر ونقض العهود التي جُبلت عليها الحركة الشعبية جعلتها تشن هجوماً غادراً على مدينة «توريت» في مطلع سبتمبر من نفس العام أي بعد حوالى أربعين يوماً فقط من توقيع البروتوكول، حيث قام الجيش الشعبي باحتلالها مما حدا بالقيادة السياسية إلى سحب مفاوضيها والإعلان عن وقف التفاوض حتى تحرير «توريت». وبعد تحرير توريت تواصلت المفاوضات وتتالى توقيع البروتوكولات المكونة لاتفاق السلام الشامل الذي وقع في العام 2005م . فدخلت الحركة الشعبية بعدها الخرطوم دخول الفاتحين بموجب هذا الاتفاق الكارثة وصارت شريكاً أساسياً في السلطة والثروة، فعاثت فيهما فساداً وإفساداً أكبر مما فعلته وهي في ميدان الحرب قبل السلام وأصبحت سرطاناً ظل ينهش في جسد السودان من الداخل طيلة ستة أعوام قضتها الحركة في الحكم تشارك في حكم الشمال وتحكم الجنوب كله دون تدخل من الشمال حيث كان الجنوب كله سلَّمَاً لها وفق اتفاق نيفاشا. ولكن حتى بعد أن انتهى أجل الاتفاق بانفصال الجنوب عبر الاستفتاء وتحوله إلى دولة مستقلة لها كيانها ومعترف بها دولياً، فإن أذاها لم يتوقف وشرورها لم تنقطع عن السودان فآوت إليها حركات التمرد ودعمتهم وشاركتهم في الاعتداء على الأراضي السودانية في مناطق النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور واحتلالها لهجليج وإلحاق الدمار والخراب بحقول البترول فيها على النحو المعروف للجميع. ما أشبه الليلة بالبارحة!! فحينما تصدى السودان للعدوان الجنوبي على تلك المناطق ممارساً حقه الطبيعي في الدفاع عن أراضيه وسيادته ووحدة ترابه، وبعد أن هزم جيش الجنوب وكبّده خسائر فادحة في الأرواح والعتاد وكسر شوكته، وبينما ما تزال القوات المسلحة والمجاهدون والقوات النظامية الأخرى تزحف جحافلهم في عزيمة قوية ويقين راسخ بالنصر نحو كاودا وغيرها من المواقع التي دنستها حركات التمرد المدعومة من دولة الجنوب بالجيش والعتاد الحربي، فإذا بنفس تلك الجهات التي كانت تدعم الحركة وجيشها أيام التمرد في الجنوب تنهض وتتدخل لمد طوق النجاة للحركة الشعبية لإنقاذها من الهلاك، وطوق النجاة هذه المرة هو قرار مجلس الأمن الأخير الذي يحمل الرقم «2046» الخاص بدولتي السودان وجنوب السودان والمتعلق بوقف العدائيات واستئناف المفاوضات بين الطرفين دون شروط ولا أحد يدري لماذا قبلت الحكومة هذا القرار المفخخ بعدد من الألغام والقنابل الموقوتة ولعل أكبرها وأخطرها اتفاق «نافع عقار» الإطاري الذي وُقِّع في أديس ابابا العام الماضي وهو الاتفاق الذي ولد ميتاً ورفضه الرئيس صراحة وتبرأ منه د. نافع لاحقاً. والفخ الثاني هو اتفاق «الحريات الأربع» الذي وقعه إدريس عبد القادر عن السودان وباقان أموم عن جنوب السودان وهو الاتفاق الذي «لفظه» الشعب السوداني فيما يشبه الإجماع وأجهزت عليه دولة الجنوب بيديها حينما قامت بالاعتداء على هجليج. القرار «2046» هو التفاف واضح على ما كان رفضه الشعب السوداني، أتى به حلفاء الحركة الدوليون، هو قرار عبارة عن سندويتش محشو باتفاقيتي الحريات الأربع واتفاق نافع عقار وبعض «المحدقات» و«المخللات» مثل أكذوبة المناطق المتنازَع عليها وطبعاً بإضافة «هجليج» لمقايضتها بأبيي!!. هذا السندويتش المسموم نجح حلفاء الحركة في تقديمه إلى الحكومة ووضعه على مائدتها وهم يترقبون وينتظرون الآن بقلق شديد الخطوة التالية التي يتمنونها من الحكومة وهي أن تبدأ في قضمه والتهامه والتجشؤ، وبذلك تكون الحكومة قد أحالت نصرها بيديها إلى هزيمة، فالنصر في ميادين القتال يصير لا معنى له إذا لم ينعكس واقعاً بوزنه وثقله على موائد التفاوض، أما أن تخسر جوبا في الميدان ثم تأتي لتربح على طاولة التفاوض، وأن تكسب الخرطوم الحرب على أرض المعركة، ثم تأتي لتخسرها داخل غرف التفاوض الباردة فهو ما لا يستطيع عقل أن يفهمه ولا بصيرة أن تستوعبه. ما تزال الفرصة سانحة أمام الحكومة للعدول عن تناول هذا السندويتش المسموم، أما الحديث عن القبول ببعض النقاط الواردة في القرار والإعراض عن النقاط الأخرى السالبة الواردة فيه فهو حديث غير عملي ولا يمكن تصوره ولا يمكن أن «يفوت» على حلفاء الحركة الدوليين الذين صاغوا هذا القرار وقصدوا به أن يكون مثل حقل الألغام لا يمكن لمن لا يمتلك خارطته أن يسير فيه بسلام واطمئنان دون أن ينفجر بعضها تحت أرجله.