إن السلفيين يسيرون في فهمهم للنصوص الشرعية بفهم السلف الصالح وهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم والتابعون وتابعو التابعين رحمهم الله تعالى وهؤلاء هم أصحاب القرون «الثلاثة» المفضلة، قال الله تعالى: «والسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «خَيْرُ الناسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» رواه البخاري ومسلم. فاتباع سبيل الصحابة والتابعين وتابعيهم والسير على طريقهم والاهتداء بهديهم وفهم الكتاب والسنة بفهمهم هو من الواجبات المتحتمات، وإن الشرع المطهر قد أكد على ذلك، بل إن الله تبارك وتعالى قد توعد من أعرض عن دربهم، وسار على غير طريقهم توعدهم بالوعيد العظيم، ومما يدل على ذلك قوله تعالى: «وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا». فهم الذين شهدوا نزول الوحي، وعلموا مقاصد التشريع وصحبوا النبي عليه الصلاة والسلام وجاهدوا معه، وحضروا معه فرض الفرائض وسن التشريعات، فلا غرو أن يجعل الشرع لسبيلهم تلك المنزلة والمكانة العظيمة. والمقصود بهذه المقدمة التأكيد على أن الدعوة السلفية تسير على وفق منهج السلف الصالح في كل القضايا والمواقف، في العسر واليسر في الرخاء والشدة، مع القريب والبعيد، مع الحاكم والمحكوم وغيرهم. وفي موقف الدعوة السلفية من الحاكم وقضايا الحكم، فإن الدعوة السلفية تسترشد في موقفها من الحكومة بالنصوص الشرعية من الكتاب والسنة وتفهم النصوص الكثيرة الواردة في ذلك بفهم السلف الصالح، والذي ينظر إلى الموقف السلفي في هذه القضية المهمة من القرن الأول حتى يومنا هذا وعلى مختلف البلدان يجد ثباتاً ووضوحاً لا يخفى على كل ذي عينين. وليس المقصود بهذا المقال سرد عقيدة أهل السنة والجماعة في هذا الباب؛ فقد اعتنى أهل العلم في القديم والحديث بهذا الباب وبينوا الأصول والقواعد والكليات في ذلك بتفصيل لا يبقى معه إيهام أو غموض ولا يكون معه مجال لاضطراب أو تناقض!! والكتب المفردة في هذا الجانب كثيرة جداً ولله الحمد. وإنما المقصود بكتابة هذا المقال التأكيد ببيان أن الدعوة السلفية تسترشد بالنصوص الشرعية في مواقفها من الحاكم، وليس للمصالح والمقايضات الدنيوية أو الأغراض الشخصية أو الانفعالات العاطفية أو المكايدات السياسية أو غيرها نصيب في توجيه هذه المواقف. فقد عشنا ورأينا من: يقايضون الحكومة في موقفهم منها حتى تلبي لهم طلباتهم، فيعلنون سياسة تعطينا لنسمع ونطيع!! وآخرون يخرجون عليها ويعلنون شق العصا بناء على عدم تحقيق بعض رغباتهم!! وآخرون يعلنون الولاء أياماً ثم ينقضون ذلك الولاء بتحالفات مع آخرين!! ويتغيرون ويتلونون في مواقفهم بناء على المصالح الشخصية!! وآخرون يرون أن الصلة مع الحاكم ينبغي أن تكون على التحالفات!! وليست السمع والطاعة!! وغيرهم، وظهر ببلادنا صنف جديد في الفترة الأخيرة وهم «بعض المسؤولين» مثل بعض الولاة، وبعض الوزراء!! بإعلانهم مواقف من الحاكم وإشهارهم انتقادات ينشرونها في وسائل الإعلام في قضايا حساسة لا يليق نشرها على الملأ.. وسألقي الضوء على هذا الجانب بتفصيل في نهاية المقال.. إن موقف السلفيين من الحاكم في هذه القضية وكل القضايا هو: «التوجيهات الشرعية وما كان عليه السلف الصالح» وينطلقون من ركن شديد وأصول ثابتة وقواعد راسخة وهم في ذلك على بينة من أمرهم، ولا يضر المنهج السلفي بعضُ المواقف الشخصية من بعض من ينتسب إليه، فقد رأينا من اتجه لمقايضة الحاكم والدخول في تحالفات وأشهر سياسة كم تعطينا؟ حتى نعلمك: كم نعطيك؟! ولا يخفى أن هذا الصنيع هو من التأثر الواضح بالأحزاب السياسية!! وإلا فإن الموقف السلفي المعروف لصغار طلاب العلم قبل كبارهم: أن العلاقة مع الحاكم هي علاقة محكومين بحاكم، فللحاكم حقوق وللمحكومين «الرعية» حقوق، وليست القضية ترجع لمبدأ ندية أو خاضعة لأي نوع من المساومات!! وإن السلفيين على مر العصور يقررون حقوق الحاكم وواجباته، وقد سردت عشرة منها في حلقة سابقة بهذه الصحيفة، كما إنهم يقررون حقوق الرعية التي يجب على الحاكم الوفاء بها، ولم يكن بين تلك التقريرات سياسة المقايضة!! التي سار عليها البعض، وقد وجدت معارضات كبيرة وواضحة من الأكثر منهم قرباً!! فضلاً عن غيرهم، حتى باتت وكأنها مواقف شخصية لمعينين!! ولا بد من ضرب بعض الأمثلة ليتضح بجلاء أكثر أن المواقف السلفية تستند إلى قواعد وأصول راسخة وثابتة وليست للمصالح الدنيوية أو المكايدات السياسية أو الانفعالات العاطفية تأثير في ذلك، وأنّى يكون لذلك أو غيره تأثير والأمر دين وعبادة ويترتب على مخالفة الشرع فيه وعيد شديد، والعياذ بالله تعالى. أولاً: ومن ذلك فإني أسرد أبرز حقوق الحاكم المسلم على رعيته وقد ذكرها ابن جماعة الكناني رحمه الله وأفاد بنقلها عنه الشيخ الدكتور عبد السلام البرجس رحمه الله: فالحق الأول: بذل الطاعة له ظاهراً وباطناً في كل ما يأمر به أو ينهى عنه إلا أن يكون معصية، قال الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ». وأولو الأمر هم: الإمام ونوابه عند الأكثرين وقيل: هم العلماء وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «السمع والطاعة على المسلم فيما أحب أو كره ما لم يؤمر بمعصية» رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما. وقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه -، قال: دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: «إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان». الحق الثاني: بذل النصيحة له. قال رسول الله: «الدين النصيحة»، قالوا: لمن ؟ قال: «لله، ولرسوله، ولكتابه ولأئمة المسلمين، وعامتهم» رواه مسلم. الحق الثالث: القيام بنصرتهم باطناً وظاهراً ببذل المجهود في ذلك لما فيه نصر المسلمين وإقامة حرمة الدين وكف أيدي المعتدين. الحق الرابع: أن يعرف له حقه وما يجب من تعظيم قدره، فيعامل بما يجب له من الاحترام والإكرام، وما جعل الله تعالى له من الإعظام، ولذلك كان العلماء الأعلام من أئمة الإسلام يعظمون حرمتهم، ويلبون دعوتهم مع زهدهم وورعهم، وعدم الطمع فيما لديهم. الحق الخامس: إيقاظه عند غفلته، وإرشاده عند هفوته، شفقة عليه، وحفظاً لدينه وعرضه، وصيانة لما جعله الله إليه من الخطأ فيه. الحق السادس: تحذيره من عدو يقصده بسوء، وحاسد يرومه بأذى أو خارجي «يعني من الخوارج» يخاف عليه منه، ومن كل شيء يخاف عليه منه على اختلاف أنواع ذلك وأجناسه فإن ذلك من آكد حقوقه وأوجبها. الحق السابع: إعلامه بسيرة عماله الذين هو مطالب بهم ومشغول الذمة بسببهم، لينظر لنفسه في خلاص ذمته، وللأمة في مصالح ملكه ورعيته. الحق الثامن: إعانته على ما تحمله من أعباء الأمة ومساعدته على ذلك بقدر المَكْنَة، قال الله تعالى -: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى»، وأحق من أُعين على ذلك ولاة الأمور. الحق التاسع: رد القلوب النافرة عنه إليه، وجمع محبة الناس عليه لما في ذلك من مصالح الأمة وانتظام أمور الملة. الحق العاشر: الذب عنه بالقول والفعل وبالمال والنفس والأهل، في الظاهر والباطن والسر والعلانية. وإذا وفت الرعية بهذه الحقوق العشرة الواجبة، وأحسنت القيام بمجامعها، والمراعاة لمواقعها، صفت القلوب وأخلصت واجتمعت الكلمة وانتصرت بإذن الله تعالى. ثانياً: ومن الأمور الثابتة الواضحة المقررة عند السلفيين: الصبر إن حصل جور من الحاكم، وذلك بناء على النصوص الكثيرة التي وردت في ذلك، وأذكر منها: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية» رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم: «من كره من أميره شيئاً، فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً، فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية». ومن المقرر عند السلفيين أن الشرع قد أوجب الصبر على جور وخطأ الحاكم لأن الخروج عليه تترتب عليه مفاسد أعظم، ومن تأمل التاريخ في القديم والحديث يجد أن أكثر مصائب المسلمين إنما هي من جراء التفريط فيما قرره الشرع في هذا الباب الخطير. قال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية: «وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا لأنه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات ومضاعفة الأجور...». وهذه إشارات وإلا فإن الأمر بحاجة إلى بسط ومزيد من النقولات والتوضيح إلا أن المقام لا يتيح أكثر من ذلك. فإذا كان هذا هو الموقف الذي يجب أن يكون عليه الرعية من الراعي والمحكومين من الحكام، فكيف يكون يا ترى موقف «بعض» المسؤولين في الدولة من الحاكم ؟! وكيف يكون موقف الوزراء من الحاكم؟! ومن رئيسهم؟! بلا شك مراعاتهم لهذه الحقوق آكد وأعظم، وتفريطهم في هذه الحقوق أشد ضرراً وأخطر أثراً، وفي بلادنا في الفترة الأخيرة تكررت نماذج لتصريحات لبعض الولاة والوزراء على الملأ فيها من الأمور التي يجب اجتنابها من الشخص العادي فكيف إذا صدرت من مسؤول، ولا أقصد هنا تكميم الأفواه من النصيحة وبذلها فذلك أمر واجب والساكت عن الحق شيطان أخرس كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق كما روي عن بعض العلماء، ولكن للنصيحة طرقها وأساليبها التي دلّ عليها الشرع وبالتزامها تبرأ الذمة ويحصل المقصود، أما طريقة بعض المسؤولين التي تكررت من بعضهم في الفترة الأخيرة فهي بهذا الأسلوب مما يضر ولا ينفع ومما يشتت ولا يجمع ومما يضعف هيبة الحاكم لدى محكوميه، وتزداد خطورة هذا الأمر ونحن في هذه المرحلة من تاريخ بلادنا التي يتربص بها أعداؤها ويبذلون جهوداً كبيرة لاستحلال بيضتها ودمارها وتفتيتها. وأسأل الله تعالى يوفق حكامنا للقيام بما أوجبه الله سبحانه وتعالى عليهم وأن يجعلهم رحمة لرعاياهم وأن يهيئ لهم البطانة الصالحة التي تدلهم على الخير وتعينهم عليه، إن ربي سميع قريب مجيب.