أخي الشهيد مختار سليمان سلام عليك في الصادقين، ورحمة وبركات تتنزل عليك في الخالدين... تمر بنا ذكراك الحبيبة هذه الايام فنتنسم عبق الشهادة وعبير الصدق وعطر الفداء.. ندلف لمحرابك الوضيء ونسبر غور بحرك الفياض ونتأمل في ثنايا الصفحات الناصعات التي خلّفتها من بعدك دروسًا وعبرًا.. قيمًا ومعالم على الطريق.. في اليوم الرابع من شهر مايو في العام 1994 م كانت ساعة الإيذان بأن تمضي للخلود ولا تعود لمكابدة الاحداث والأيام والتصاريف وتتربع على عرش الشهادة وتأوي روحك للقنديل.. ثمانية عشر عامً مرّت على استشهادك ولم تبلى ذكرياتك المشرقة ولم تمّحي من وجدان اهل السودان بل ازدادت عمقا وانتشارا .. تأتي الذكري هذا العام وقد دبّت روح الجهاد من جديد في وجدان الامة بعد سنين الهدنة والصلح الذي ما رعته الحركة الشعبية حق رعايته بل خانت وتطاولت وعادت بذات الوجه القبيح غدرًا وظلمًا.. فأذكت بفعلها ذات الروح القديمة واطلقت يد المجاهدين الذين صبروا وكظموا الغيظ وفاءً للعهود.. واليوم اخي مختار: القوم هم القوم كأنهم قريش والحق هو الحق مرماه لن يطيش اخي مختار نسير اليوم ما بين متحرك الانفال والطريق لمدينة كاجي كاجي ومتحرك استرداد الحق وولوج مدينة هجليج.. نقلب صفحات الوفاء والصفاء والفداء.. ونذكر كلماتك النديّة التي حملتها تلك الوصية وتحياتك للعقد الفريد ووصاياك لهم برعاية الشباب الصادقين الذين قدحت فيهم جذوة الايمان وتعهدتها حينًا من الزمان في النشاط الطلابي بمحلية الشهداء ثم عبرت.. ونحيي عبر هذه السطور ابناءك البررة الذين لحقوا بك شهداء على ذات الدرب.. الشهيد ياسر عبد الباسط والشهيد عمر صديق وبقية العقد الفريد... اخي مختار لئن كانت وصيتك وتحيتك للإخوان الفاتح مرغني وعبد الباسط محمد علي ومحمد عثمان عبد الباقي وآخرين برعاية الشباب والسير بهم على ذات الطريق... فإني ابشّرك بأنهم تحملوا الامانة ورعوا غرسك الطيب وضربوا اروع مثال في القدوة والقيادة. وهاهي ذكراك تمر بنا وهاهو مداد الكلمات لما يجف على السطور ودم محمد عثمان عبد الباقي يسيل في هجليج وضماد جرحه يلف ساقه التي تشرفت بان تدمي في سبيل الله وها هو عبد الباسط محمد علي يعود من ملحمة هجليج ظافرًا منتصرًا... اخي مختار لئن كنت بالأمس ملكًا لشباب وأهل محلية الشهداء عبر النشاط الطلابي والتدريس بمدارسها والإمامة والموعظة بمساجدها وبعض رفاق بكلية البيطرة بجامعة الخرطوم فانك اليوم ملك لأهل السودان قاطبة.. وهاهي الشاشة البلورية تنقل حداءك الجميل : خندقي قبري وقبري خندقي وزنادي صامت لم ينطق فمتى ينفث رشاشي متى لهبًا يصبغ وجه الشفق وتبث كلمات امك القوية المعبرة ورفاقك الأوفياء الذين يرون سيرتك العطرة ومواقفك المشرفة... وكلما ردد مجاهد النشيد: مختار دا دليلنا وصافي النيه يوم الحارة عزيمتو قوية مخلص وصادق وروحو عليّه بصدق إيمانو يساوي سريّه حلقت صورتك البهية في الآفاق مع رفاقك الشهداء الأوفياء... اخي مختار لئن كنت بالأمس مختارًا واحدًا فاليوم اصبح لدينا كتيبة ممن يحملون اسمك العجيب المميّز الذي وقفت امامه مليًا.. وتعجبت كثيرًا من اصرار شقيقك عليّ وقتها على اختيار هذا الاسم لك فكان اسمًا على مسمى وكنت مختارًا لدور كبير وسيرة عطرة وشهادة على اهل هذا الزمان... وهاهو اسمك قد صار قلادة تزين اعناق اشبال اليوم رجال الغد الموعود والذين لا استبعد ان يسيّروا في مقبل الأيام كتيبة كاملة ليس فيها إلا مختار.. اخي مختار نقف عند ذكراك العطرة في محراب الأب الرائع الحاج سليمان محمد زين والأم الحنونة الحاجة ستنا ابراهيم.. لنلقي التحية في اجلال لمن رعاك وتعهدك غرسًا غضًا حتى قوي عودك واستويت على الحق المبين وامتلأ وجدانك بحب الله ورسوله والمؤمنين والتحية لهم وهم يهدونك من بعد سنين الاعداد لأهل السودان كالغيث السكوب اينما حلّ نفع والتحية لهم وهم يحتسبونك شهيدًا فداءً للبلاد وحماية لبيضة الدين وأنموذجًا للصدق والوفاء والإقدام.... اخي مختار ما يزال الملأ يأتمرون بنا لوأد التجربة وإخماد الجذوة واستنزاف وتمزيق البلاد وما وجدوا مسلكًا لإنفاذ مهمتهم إلا سلكوه ولكنّ إرادة الله الغلّابة ابت عليهم وحالت بينهم وبين ما يشتهون.. وكلما اوقدوا نارًا للحرب اطفأها الله.. وكلما مكروا مكرًا حسبوه المجهز على التجربة جعله الله سببًا لبعث الحياة من جديد في جسم الدعوة والدعاة والجهاد والمجاهدين.. وفرصة لامتداد التواصل بين اجيال الشهداء فها هو علاء الدين فاولينو ومحمد جلال الدين ومحمد عبد الله التيجاني وزمرتهم يبلغون عندكم شهداء مرددين «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا».. وها هي معركة هجليج التي ارادوها كسرًا لمعنويات وكرامة اهل السودان واستنزافًا للموارد وحربًا اقتصادية تقود لسقوط النظام وتمزيق البلاد.. ها هي تصبح مصدر قوة وعز ورفع للهمم وتوحيد للصف وإذكاء لروح جديدة تسري في أوصال الأمة.. اخي مختار ما احوجنا هذه الأيام للقدوة والمثال متعدد الميز والخصال من امثالكم فلئن كنت امام المسجد وخطيبه المفوّه ولاعب الكرة الماهر والمعلم الحاذق والمربي القدوة والأديب الأريب والمنشد الحادي للركب والمزكي للوجدان والماهر بالقرآن والمجاهد الشجاع المقدام والقائد المتعفف الورع المتواضع.. لئن كنت كذلك و فوق ذاك فإننا اليوم احوج ما نكون لعبقكم الفوّاح ومثالكم الاخّاذ وأنموذجكم الفريد... وعبرك أخي الكريم وعند ذكراك الحبيبة اقف لأناشد كل من تتلمذ على يديك وكل من تشرّف بالعمل معك وكل من جمعته بك الايام والتكاليف أن يرفع الهمة ويرتقي في مدارج السالكين ويلزم نفسه بالعوالي من الآمال والمطالب والتطلعات.. وليكن شعاره لا خير فيّ إن لم اكن كمختار... وبعد احبتي ها هي ذكرى استشهاد مختار الثامنة عشرة تمر بنا فنذكر عندها ذاك الفتى الأخّاذ : فتى أخلاقه مثل وملء ثيابه رجل يضجّ الحق في دمه ويزحم صدره الأمل الذي تميّز منذ النشأة الاولى ذكاء وصفاء وتقوى وما إن استوى عوده حتى بانت فيه صفات القيادة وبرزت عنده المواهب المتعددة وبسط الله له مساحات في قلوب من عاصروه وكأني برجع النداء يتردد في الآفاق «إنّ الله قد احب مختارا فأحبوه» . وكأنّه في سباق مع الزمن وهو يعدّ الأجيال فكريًا وتربويًا وإداريًا ويتواصل معهم اجتماعيًا ويتعهد الكبار بالخطب والمواعظ فلا تفتقده في منشط يخطر ببالك أنّه حضور فيه.. وكل ذلك على حساب الجسد الناحل الذي اتعبته تلك الروح الشفيفة العجلى وبفضل بركة الوقت والعمر التي منّ الله بها عليه. إذ أنّه تربع على عرش الشهادة ولمّا يبلغ الثلاثين. مخلفًا وراءه آثارًا وفهومًا ومواقف وتلاميذ يعجز من تضاعف له العمر ان يحققها ويبلغها ولكنّه الاصطفاء الرباني «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم»... وبعد احبتي فإنّ صفحات صحائف الشهداء مليئة بالروائع والعجائب وكل شهيد رحل عنّا يمثل مدرسة خاصة تستحق أن نلج لفنائها الواسع وندلف لفصولها العجيبة فصلاً فصلاً عسانا نعرّف الأجيال الجديدة بأبطال مضوا وأعلام رحلوا وأشاوس قدّموا ابلغ الدروس في الفداء وأعظم النماذج في الإقدام والشجاعة والصدق.. وبين يدي ذكرى الشهيد مختار ادعو كل رفاق الشهداء ان يسطّروا بمدادهم بعض احرف عن تلكم النجوم اللوامع وأولئك الرجال الأفذاذ لعلها تكون مصابيح تنير الليالي الحوالك ومعالم تهدي الشباب السالك وحداء يوقظ السكرى بزخرفها ويحملهم على الدرب السويّ لهم يقود... التحية للشهيد مختار ورفاقه الأبرار. والتحية لرجال متحرك الأنفال. والتحية للمجاهدين في القوات المسلحة والدفاع الشعبي والقوات الأخرى من لدن كتيبة الأهوال وصيف العبور وانتهاء بالأشاوس الواقفين على الثغور حماية للدين والعرض والأرض..