تبقى مسؤولية تحمل شؤون الرعية، ثقلاً عظيماً على المرء، لأنها خزيٌ وندامة إن لم يوفها من عهدت إليه الحق المطلوب ويقدرها بما يتلاءم معها من تقدير وإحساس. وإن كانت السلطة في زمان مضى، تعني أن يعيش من آلت إليه في ترف ودعة بأكل أطيب الطعام، والتوسد بأنعم الفرش، والاستلقاء باسمتخاخ على سرر موضوعة وأرائك مصفوفة، لكنها في هذا الزمان الغريب أصبحت تجر لصاحبها تبعات تورثة الضنك والمشقة وعدم راحة البال، وهذه الحالة تنبئنا بها أحوال عديدة، لملوك ورؤساء، تمتعوا حيناً من الدهر قل أو كثر، لكنهم في نهاية المطاف لم يشكرهم أحد على ماقدموه من خير، وظل تاريخهم ينبش في كل يوم دون أن يرى النابشون له سوى سوء الأفعال، حيث تتضاءل قيمة الإشراق، وتطغى معالم السواد والظلام فلا تجد بين أوراق التاريخ التي يبعثرها المبعثرون ورقة بيضاء واحدة لأولئك الذين حكموا الأمم لفترات من التاريخ، وإن كانت تلك الفترات موزعة على نحو متفرق لا تجمع بينها أدنى الصلات. و لو كنت والياً للخرطوم، لما غابت عن ذهني صورٌ من صور الماضي لرجال تولوا المسؤولية في هذه الولاية، ولطلبت من الذين يحفظون سجلات العمل وتقارير الأداء بأن ينقبوا لي ذلك الأرشيف بشكل دوري، لأتعرف على حجم الأداء و درجة الجهد الذي بذله من سبقني بالجلوس على عرش السلطة، ولكان باستطاعتي أن أقف على عناصر نجاحهم وجوانب إخفاقهم، والأسباب التي جعلت رعيتهم شاكرة أو متبرمة، و غير ذلك من نتائج حكمت عليهم، كما يجب عليّ أن أكون على قناعة غير مهزوزة بأن لكل بداية نهاية، ولكل مخلوق أجلاً، فلا يتطاول أملي بأن أبقى والياً على نحو أبدي، بقدر ما أطمح نحو يوم آت أصيب فيه بعض الأهداف وأنال به حسن الختام. و لو كنت والياً للخرطوم، لما تخلفت يوماً واحداً عن السير في شوارع المدينة، لأطلع على درجة نظافتها، وأتعرف على معاناة أهلها، وحجم المصاعب التي يلاقيها المرضى و ذووهم، الذين يلتحفون الثرى أمام بوابات المستشفيات، تلك التي تشتكي من غلاء الأسعار في صيدلياتها، بالرغم من أن العلاج في زمان مضى، ولعهود طويلة كان خدمة تقدمها الدولة بالمجان، دون استثناء لعملية جراحية بسيطة أو أخرى خطيرة تتطلب جراحة للقلب المفتوح. و لو كنت والياً للخرطوم لجمعت وطرحت أرقاماً كثيرة، لأرى كيف يتسنى لي ضبط المعادلة الاجتماعية، والتقليل من حجم الفجوة التي بدأت تتسع بين فئات المجتمع، مما ينذر بنشوء نظام للطبقات، طبقة فقيرة معدمة، و طبقة أخرى غارقة في النعيم، فلامس نعيمها الأنوف وغطست بكاملها فيه للحى والذقون. أعانك الله والي الخرطوم ونسأله ألا يزلَّ لك قدماً بعد ثبوتها.. ونواصل...