قلنا إن هناك ثمانية أسباب مسؤولة عن ازدياد وتنامي (ظاهرة) العنوسة، ليست للعوانس يدٌ فيها إلا في اثنتين منها، وهما أولاً: الشعور الزائد بتقدير الذات self- overestimation نتيجة امتلاك فعلي لعدد من القيم الخِلْقية congenital values الجاذبة مثل الجمال والنسب والذكاء وأخرى مكتسبة acquired values مثل الثراء والجاه والمركز الاجتماعي والحسب، فالشعور الزائد من الفتاة بهذه القيم كلها أو بعضها سواء كان حقيقياً أو متوهماً يجعلها ترفع من سقف طموحاتها وتوقعاتها لشريك حياتها إلى مستوى عالٍ جداً، ولعل القيمة الأبرز في تلك القيم هي الجمال، حيث ينمو الشعور به لدى الفتاة منذ الصغر حين تطرق أذنيها تعليقات الأهل والأقارب ومن حولها وحديثهم عن جمالها وهي لا تدرك معنى ذلك إلا حينما تكبر فيصبح ذلك الشعور أحد ركائز بنيان شخصيتها وأعز ما تملك في مواجهة الآخرين من حولها، ويتولد الغرور لديها وهي ترى الكل يحاول التودد إليها والتقرب منها ذكوراً كانوا أو إناثًا وينتابها شعور زائد بأهميتها ويصبح جمالها عنصر قوة بالنسبة لها، خاصة أن الجمال من أولى الصفات التي يلتمسها الرجال في المرأة وهي صفة لصيقة بالمرأة دون الرجل، فلا يعاب الرجل بدمامة في خلقته فجمال الرجل في صفاته من كرم ومروءة وشجاعة فالرجل البخيل أو الجبان تنفر منه النساء فرار السليم من الأجرب، وفي خِلْقة المرأة جمال مهما قلّت درجاته في ملامحها الظاهرة وأية امرأة في هذه الدنيا فيها قدر من الجمال والإنجليز يقولون Beauty lies in lovers eyes لذلك حينما تشب الفتاة عن الطوق وتعي معنى الجمال تبدأ في القلق من درجة ومستوى جمالها فإن كانت من ذوات الحظ فيه اطمأنت وإن كانت غير ذلك كان همها اصطناعه بالتجمل أو التعويض عنه قدر الإمكان بالقيم الأخرى ولو خُيرت أيما امرأة ما بين الذكاء والجمال لاختارت الجمال، ولما كان أكثر الشباب يميلون إلى جعل الجمال الأساس الأول والأخير في اختيار شريكة الحياة فإن الفتاة الجميلة تجد أن لها رواجاً يزيل عنها القلق بشأن الزواج ويبث في نفسها الاطمئنان بأنها ستختار شريك حياتها في الوقت الذي تريد ووفقاً لمواصفاتها هي ويساعدها على ذلك كثرة المتقدمين والخطّاب كماً ونوعاً فتظل ترفض هذا وذاك بحجج مختلفة وكلما ازداد الخُطّاب ازدادت هي اطمئناناً وثقة بهذا الرواج، وتنسى وهي في غمرة هذا التدافع و(الزحمة) في المتقدمين والخطّاب أن المرأة مثل الزهرة لا تبقى زاهرة ومتوردة وجميلة طوال الوقت وإنما هي سريعة الذبول، فتمضي وتواصل في مسلسل الرفض غير عابئة بالعواقب حتى يمضي بها قطار العمر بعيداً عن محطات الجمال فينقطع عنها الخطّاب ويصيب سوقها الكساد فتكون الصدمة هي النتيجة الطبيعية وحين تفيق منها تجد أن (طائرة) الزواج قد أقلعت بدونها وتركتها في مطارات الحسرة والندم. والسبب الثاني من الأسباب التي للعوانس يدٌ فيها هي رفض الزواج بحجة إكمال الدراسة الأكاديمية ومما زاد من تنامي هذا السبب هو ظاهرة تفوق الإناث في الدراسة فكان ذلك حافزاً لهن في المضي في طريق التحصيل الأكاديمي إلى نهاياته وهي رحلة ليست بالقصيرة من حيث عنصر الوقت وكلما انتهت مرحلة بنجاح وتفوُّق كان ذلك مشجعاً لها على دخول المرحلة التي تليها وهكذا حتى إذا وصلت نهاية الشوط في الدراسة الأكاديمية وجدت نفسها وقد تقدم بها العمر وأصبحت على تخوم الثلاثين بالإضافة إلى تغير كثير من مفاهيمها عن الزواج والصفات التي تفضلها في شريك الحياة وذلك بفعل ما أحدثه التحصيل الأكاديمي والمجتمع الأكاديمي المحيط في منظومة تفكيرها وتفضيلاتها ونظرتها إلى الحياة فضلاً عن المكانة الاجتماعية الجديدة التي اكتسبتها جراء التحصيل الأكاديمي ثم التوظيف في وظيفة مرموقة والألقاب المترتبة على ذلك، فتضع لنفسها معاييرًا للاختيار أو (الموافقة) على شريك الحياة أقل ما يقال عنها إنها معايير مثالية ليس لها أساس في دنيا الواقع الذي يحيط بها وتعيش فيه فتبدأ رحلة شاقة وطويلة في البحث عمن تنطبق عليه المواصفات المثالية تلك ولكن بلا جدوى وفي أثناء رحلة البحث هذه تكون هناك مياه كثيرة جرت تحت الجسر وعند نهاية الرحلة والاقتناع بالتنازل عن هذه المعايير والمواصفات تكون هذه المياه قد جرفتها نحو ضفاف الأربعين، فتبدأ رحلة العودة للّحاق بما فات من الفرص (المملحة) و(اليابسة) ولكن يكون كل شيء قد مضى وانطوى ولم يبقَ غير الأطلال والبكاء على اللبن المسكوب.. والحقيقة أن الخطأ الذي تقع فيه هذه الفئة ومعها الأهل أنهن يرين أن هناك تعارضاً ما بين الزواج والتحصيل الأكاديمي، ويعتبرون أنهما ضدّان لا يلتقيان وهو اعتقاد خاطئ وغير صحيح ويعلم ذلك من خاضوا التجربة بالفعل إذ أن الأمر عكس ما يعتقد هؤلاء، فالزواج يمنح السكينة والمودة ويكمّل كثيرًا من النواقص لدى الأزواج ويؤدي إلى الشعور بالاتزان وصفاء النفس والذهن ومن ثم يزيد ذلك من القدرة على التركيز والقابلية للاستيعاب ويحفظ للطرفين الكثير من الوقت الذي من الممكن إهداره في الوجد والهيام والشعور بالحرمان، والبيئة الجامعية التي نراها اليوم فيها ما فيها من (المحفزات) بالنسبة للشباب للدخول في علاقات خارج إطار الزواج وهي علاقات كارثية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ، أما الزواج الشرعي فهو مدعاة إلى إطفاء نيران كل تلك الموجدات ويشبع كل تلك الغرائز الفطرية بطريقة طيبة وكريمة ومن ثم يوفر ذلك فرصاً كبيرة للخلق والإبداع والتفوق وليس العكس، وإذا كان خروج المرأة إلى العمل لا يعيق قيامها بواجباتها الأساسية في البيت وفق ما يعتقد كثير من الناس ووفق ما هو مشاهد ومعايش الآن في كثير من التجارب فكيف تكون الدراسة والتحصيل الأكاديمي عائقاً أمام قيام شراكة شرعية معافاة!!.. نواصل..