لا تحتاج المسألة لذكاء وعقل حاذق، كل شيء واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، فدولة الجنوب لا ترغب في السلام ولا في الوصول لاتفاق ينهي حالة الخلاف والتنازع بين البلدين، ولا إلى سلام مستدام مع السودان، تنعم فيه كلا الدولتين بالاستقرار والأمن والطمأنينة وينفتح الطريق أمام البناء والتنمية والتقدم والنمو الاقتصادي.. وكل الذي يجري كما توقعنا كان مجرد لعب على حبال الوقت وتلاعب في مط الزمن وجرجرة المفاوضات وجر الخرطوم في مسارات ومتاهات لولبية بلا معنى. ولا بد من النظر بدقة في أسباب فشل التفاوض في الملف الأمني في اجتماعات اللجنة السياسية الأمنية المشتركة التي اختتمت بعد انهيارها أمس في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، تحت رعاية اللجنة الإفريقية رفيعة المستوى بقيادة الرئيس الجنوب إفريقي السابق ثامبو أمبيكي، وبغض النظر عن ما يقوله وفدا التفاوض، خاصة الوفد السوداني، حول عدم رغبة جوبا في السلام وإضافتها لمناطق جديدة شملتها خريطة الدولة الجديدة وغيرها من الدواعي، فإنه لابد من النظر بعمق في جذور توجهات جوبا ومطلوباتها من عملية التفاوض نفسها وحقيقة مشاركتها في جولات التفاوض، وهل هي من أجل الحصول على سلام واتفاق، أم محاولة تمويه كبيرة لتغطية شيء آخر؟... ولابد هنا من النظر في جذور هذه التوجهات التي يمكن حصرها في ما يلي: على مستوى الداخل في دولة الجنوب، فإن النخبة الحاكمة من قيادات الحركة الشعبية، تستثمر في الحرب لا في السلام، وصنعت الحركة الشعبية وجودها وعلاقاتها الدولية وتشابكت خطوطها في الفضاء الإفريقي مع القوى الغربية التي رعتها، من واقع مدعى ومصطنع بأن دولة الجنوب المسيحية الإفريقية تواجه تهديداً ماحقاً من السودان العربي المسلم، وهي ضحية لحرب طويلة وما تزال تعيش مضاعفاتها، ولفتت الحركة الشعبية ودولة الجنوب قبل وبعد إعلانها، نظر الأطراف الدولية، إلى أهمية الوقوف إلى جانبها والضغط على السودان وإضعافه من أجل أن تحيا هذه الدولة الوليدة وتعيش، ولن تستطيع التنفس ولا تنتظم دقات قلبها لو ظل السودان في قبضة السلطة الحالية يتعافى اقتصاده ويواصل نهضته أو يهدد وجودها.. وبنت هذه النخبة من قيادات الجنوب الحالية وجودها في الواجهة السياسية والإقليمية والدولية على قاعدة أسمنتية صلبة هي تولي قيادة المواجهة السياسية والعسكرية والدعائية ضد السودان، فأي نهاية لهذا الفصل وهذا الدور يعني انكساف الأضواء عنها وفقدانها البريق المطلوب، وتصبح مثل كلاب الصيد التي تهرم وتعجز ولا تفيد فيتخلّص منها صاحبها الصياد... فالتفكير لهذه النخبة التي لا تهمها مصلحة الجنوب هو الإبقاء على حالة الخوف والشد والجذب واستقطاب التعاطف الخارجي. وهذه نقطة مهمة في تفكير هذه القيادات التي تعتبر وجود الجنوب نفسه بالنسبة لها استثماراً وتجارة بقضاياه نسبة لارتباطات حياة هذه القيادات وعائلاتها بدول المهاجر البعيدة والقريبة التي نالوا جنسياتها ويعيشون فيها، ووجود هؤلاء القادة في الجنوب من أجل المهمة وتنفيذ العمل، وهذا التوصيف ليس من عندنا بل هو ما تقوله بعض الأطراف الدولية اللصيقة بدولة الجنوب وبعض منتقديها من وسائل الإعلام الغربية. الجذر الثاني الأهم في عقابيل التوصل لاتفاق وسلام بين الدولتين، قيام بعض القوى الدولية والإقليمية بربط مصالحها الإستراتيجية بأوتاد الأزمة المتوالية بين السودان وجنوب السودان، فالقوى الغربية وإسرائيل، ترى أن دولة الجنوب والحركة الشعبية التي صنعوها، لابد أن تكون هي قاعدة ومنصة الإجهاز على السودان وسلبه مكامن قوته وإغراقه في الحروب والأزمات حتى يضعف ويصبح لقمة سائغة لأي قوى تريد السيطرة عليه وتستطيع سلخه من هويته وانتمائه الحضاري، وتمريغه في تراب التخلُّف والجهل والمرض، ويلحق ما تبقى منه بالمحيط الإفريقي حوله بكل تبعات وسمات وخصائص هذا المحيط الثقافية والحضارية... ولذلك فإن تحيُّز القوى الغربيةللجنوب لا ينتج من فراغات سياسية وفكرية وثقافية، إنما من تفكير وتوجه إستراتيجي موجود في قعر العقلية الغربية باستلهاماتها الصليبية وارتجاعات الحقبة الاستعمارية الغابرة.. وخير دليل على ذلك تولي جهات ودوائر تنشغل بمثل هذه التوجهات الفكرية والسياسية العميقة من مراكز الدراسات والإستراتيجية الغربية في أمريكا وبريطانيا وألمانيا وكندا والنرويج وفرنسا والسويد وإيطاليا، فضلاً عن اهتمام كبير لا يذكره الناس كثيراً للكنائس العالمية من الكنيسة الأنجليكانية والكنيسة النرويجية وكنيسة كانتربري وكنائس أخرى، ومجموع المنظمات الصهيونية الناشطة في قضية الجنوب ودارفور في الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوروبا. وعطفاً على هذا، فإن عديداً من المستشارين لدى حكومة دولة الجنوب من الأمريكيين والأوروبيين وكبار موظفي الأممالمتحدة، وكلهم ناشطون معروفون في المنظمات والدوائر المسيحية المتطرفة والصهيونية، يخدمون هذه القضية بحماس وإخلاص محيِّر للغاية، من منطلقات عقدية وفكرية لا مراء فيها ولا جدال، بيد أنهم ينظرون لمصالحهم الخاصة التي تترافق وتتوافق مع استمرار هذه الأزمة بين السودان وجنوب السودان دون فكاك، وما يكسبونه من استدرار مشاعر الرأي العام الغربي وما تدره عليهم من أموال سواءً كانت من دولة الجنوب أو من أموال المانحين، وتلك قضية طويلة ذات مسار آخر. *** والخلاصة من هذا القول، إن دولة الجنوب لا ترغب في السلام مع السودان لاعتبارات وأسباب عديدة قد لا تتبدى واضحة للعيان، لكن المؤدى واحد في نهاية الأمر، فالقريب الظاهر أنها تريد كسب الوقت على مظنة أن الأوضاع الداخلية في السودان خاصة الاقتصادية والترتيبات التي أشرفت عليها حكومة الجنوب مع حركات دارفور المسلحة وفلول الجيش الشعبي في جنوب كردفان والنيل الأزرق، يمكن أن تسقط السلطة في الخرطوم، وعندها ستكون كل المسالك وأقربها مفتوحة للحركة الشعبية للسيطرة على السودان بواسطة عملائها وحلفائها وتحقق لها ما تريد.. الغريب أن أحد أهم مستشاري الحركة الشعبية من الأمريكيين قال عن هذه المفاوضات بين السودان ودولة الجنوب:« هي مثل ثمرة الصبّار الشوكي ستدمي الأيدي كثيراً.. وبلا فائدة..».!!