عثمان ميرغني يكتب: «منبر جدة» والتوافق السوداني المفقود    مجلس السيادةينفي ما يتم تداوله حول مراجعة الجنسية السودانية    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    السيسي: قصة كفاح المصريين من أجل سيناء ملحمة بطولة وفداء وتضحية    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    تشكيل وزاري جديد في السودان ومشاورات لاختيار رئيس وزراء مدني    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    دبابيس ودالشريف    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدين والسياسة في إفريقيا جنوب الصحراء


بقلم فرنسوا جورج دريفوس ترجمة - هبة الحسيني
هذا موجز لدراسة نشرت بدورية "جيو-إستراتيجي" الفرنسية، الصادرة عن المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية بباريس، خريف 2009. وتتناول الدراسة تحليل اوضاع الأديان في افريقيا جنوب الصحراء من مسيحية بطوائفها المتعددة والإسلام والأديان المحلية، وتستقرئ واقعها وعلاقتها بالسياسة ومستقبلها.
الإسلام في إفريقيا
تتسم دراسة العلاقة بين الدين والسياسة دائما بقدر كبير من الحساسية، ويظهر هذا الأمر بوضوح أكثر في قارة إفريقيا؛ حيث لا نعلم جيدا ما هو الدين الإفريقي، ولا نستطيع أن نميز في أحيان كثيرة هناك بين كاثوليك وبروتستانت؛ فالعديد لا يعلم إلا المسيحية، ويضع في نفس المكانة الكنيسة الكاثوليكية (1)، والكنائس البروتستانتية (2) التاريخية (الإصلاحية، والمشيخية، واللوثرية، والميتودية...)، والكنائس الإنجيلية (3)، فضلا عن الجماعات المسيحية الإحيائية.
والسؤال هنا: هل الإيمان بالمسيح يعد هو السمة المشتركة بين رئيس أساقفة كينشاسا وأنصار كنيسة المسيح على الأرض التي أسسها القس "سيمون كيمبانجو"؟.. ليس من المؤكد أن تكون هذه السمة هي المشتركة بينهما؛ لأنه إذا كان الإيمان بالمسيح لدى البعض هو أمر غير قابل للنقاش، فإنه يثير جدلا لدى بعض الفئات الأخرى التي تتبنى بعض المفاهيم الإحيائية للقبائل والإثنيات.
من جانب آخر يزداد الأمر تعقيدا في إفريقيا بسبب الانعكاس الثيولوجي السياسي؛ إذ غالبا ما تكون "سلطة قائد" ما أو مجموعة قروية أو قبلية أكبر من سلطة قائد الدولة، وفي عالم البنتكوتية (دين الإنجيليين الجدد)، هناك نوعان من السياسات الخيالية: "القوى الخفية"، و"شفافية المجال العام"، وتعني القوى الخفية حشد وتعبئة خريطة السحر والقوى المرهقة للشر (المرض- الحوادث- الحروب- الصراعات بين العائلات).
ويُلاحظ أن القساوسة الأفارقة قد قرنوا السحر بالحداثة من خلال دعوة السود للتخلي عن مقدساتهم من أجل أن يصبحوا بيضا، وذلك مثلما ورد في كتاب كورتين وماري "السياسات الخيالية والبنتكوتية"، كما ورد في رواية "جوستين مينتسا" أنه بعد وفاة طفل صغير في حادث، بدأ المسيحيون في فرنسا والولايات المتحدة في خلط الممارسات المسيحية بالممارسات الإحيائية، والتي احتل فيها السحر مكانة كبيرة.
الجغرافيا الدينية لإفريقيا جنوب الصحراء
ولدى النظر إلى الإحصائيات الرسمية التي تتناول الجغرافيا الدينية لإفريقيا جنوب الصحراء، سنجد انقسام السكان هناك إلى ثلاث فئات: ثلث من المسيحيين، وثلث من المسلمين، وثلث من الإحيائيين، وهنا تظهر إشكاليتان: الأولى: ما هو تعريف "الإحيائي"؟ والثانية: ما هو تعريف "المسيحي"؟
وعلى سبيل المثال: هل يمكن اعتبار كنيسة "المسيح على الأرض"، التي أسسها القس "سيمون كيمبانجو" في زائير، كنيسة "بروتستانتية" مثلها مثل الكنائس المشيخية، والميثودية، واللوثرية (والتي تحتل أهمية كبرى في كل من الكاميرون، وناميبيا، وتنزانيا)؟ وكيف يمكن أن نصنف أبراشيات مثل تلك التابعة لحركة مون؟ فهي ليست أبراشيات إحيائية، كما أنهم في واقع الأمر ليسوا مسيحيين، على الرغم من أنهم قد شهدوا تطورا قويا خلال السنوات الأخيرة.
وبالنظر إلى مجموع إفريقيا جنوب الصحراء، حتى المناطق المعمدانية في العالم القروي، فسوف نلاحظ استمرار الممارسات الإحيائية التي تعتمد بالأساس على استمرار المجتمعات السرية في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وكينيا، وفي معظم دول غرب إفريقيا، وقد لعبت بعض هذه المجتمعات دورا توحيديا من خلال فرض النظام والعدالة في قرية أو حي؛ وهو ما أوضحه ج. بالاندييه منذ أكثر من خمسين عاما في "برازافيل السوداء".
بيانات تقريبية لتوزيع الدين في إفريقيا جنوب الصحراء
وفي مناطق عديدة نلاحظ أن المجموعات الدينية تتعايش بدون إثارة أية مشكلات، وهذا هوالحال في السنغال، وبوركينا فاسو، والكاميرون؛ فهم يتقاسمون بعض الممارسات الإحيائية في احتفالات الأديان التوحيدية من خلال إيجاد أشكال توفيقية، كأن تظل الأبراشيات "المسيحية" صامتة في معظم الأحيان، على الرغم من أن هذا المنحى تستخدمه عادة الأبراشيات الإنجيلية.
من ناحية أخرى لا يزال الإيمان بالطب الشافي باقيا؛ فالإنجيليون يجمعون أحيانا الروح والممارسات الطبية التقليدية التي يُعالج بها عادة في الأوساط المتأثرة بالنمط الغربي، وهذا يشير إلى الارتباط بالعبادات التقليدية التي تقوم بها المجموعات المسيحية، ولكن يلاحظ أن الكنائس البروتستانتية "التاريخية" في تراجع واضح، فكهنتها قد تأثروا كثيرا بالغرب، كما أن أنشطة هذه الكنائس أصبحت أكثر ميلا للطقوس الدينية المفرحة والمنقذة للأبراشيات الإنجيلية.
وقد تميزت كل إفريقيا الوسطى، بدءا من جنوب شرق الكاميرون حتى موزمبيق المطلة على المحيط الهندي، بانتشار الأبراشيات الإنجيلية ومن بينها كنيسة "المسيح على الأرض" في جمهورية الكونغو الديمقراطية.
ويذكر أطلس الأديان قائمة مؤثرة للمجموعات الإنجيلية في موزمبيق، منها: "المجلس الإفريقي للرب، والكنيسة الرسولية في موزمبيق، والكنيسة الإنجيلية لرسول الرب في موزمبيق، وكنيسة القديسين القدماء، والكنيسة المسيحية في زيون، وكنيسة جوهانا مارانج، وكنيسة الصليب المقدس، وغيرها من مئات المجموعات المختلفة؛ حيث يلاحظ تكاثر الفرق البروتستانتية استجابة لآمال الشعوب الفقيرة والمعطلة.
وفي بعض الدول التي عرفت البروتستانتية بقوة منذ زمن طويل، نجد أن هناك اتحادات من الكنائس البروتستانتية كما هو الحال في مدغشقر التي تضم اتحاد الكنائس البروتستانتية لمدغشقر، ولكن لابد من الإشارة هنا إلى أن اللوثريين لا يتبعون هذه الكنائس؛ حيث إن لهم علوم الدين الخاصة بهم.
وتعد كنيسة المسيح في مدغشقر هي الكنيسة الأكثر أهمية، فهي ذات توجه إصلاحي إنجيلي، وكانت تشكل العنصر المنشط للمسيحية البروتستانتية في هذه الجزيرة حتى اندلاع الأزمة الأخيرة، كما أن رئيس الجمهورية كان أحد أعضاء هذه الكنيسة، وكان واحدا من نواب رؤسائها.
أما في الكاميرون فيوجد "اتحاد الكنائس والمهام الإنجيلية" التي تضم الإصلاحيين واللوثريين، وفي جنوب إفريقيا يوجد "مجلس كنائس جنوب إفريقيا"، ولكن هناك أقلية قوية من البروتستانت السود الذين يتجمعون في "اتحاد الكنائس المستقلة الإفريقية" التي تضم عشرات الملايين من التابعين الأوفياء؛ وهو ما يمثل قرابة 30% من بروتستانت جنوب إفريقيا، وبالأخص الرسوليين والبنتكوتيين "الإنجيليين الجدد".
ويوجد أيضا في جنوب إفريقيا كنيسة إصلاحية مهيبة خلفها الاحتلال الهولندي، كما يوجد كنيسة إنجيلية تم إشهارها من خلال قس جوهانسبرج الأسود "إدموند توتو".
المسيحية بين السياسة والمجتمع
ويلاحظ أن الوضع في الكونغو والسودان متشابه ومختلف قليلا في ذات الوقت؛ حيث نجد أن صورة رسول السلام تختلط مع صورة الرسول الحامل للسلاح لمقاومة الشر واستئصال الأرواح الشريرة.
أما في ساحل العاج، فنجد أن النبوة لا تحمل خيالات سياسية، ولكنها تضع خطابا سياسيا حقيقيا من خلال طقوسها الدينية الفاتنة، وهذا هو حالة "الأب الجديد" Papa Nouveau المترسخ في ميراث الأعراق، والذي يعتبر نفسه يمتلك القدرة على مخاطبة الناس باسم الرب في ساحل العاج، وكان من أهم ما تطلع إليه هذا الرجل هو وحدة البلاد بالتوافق مع الفرنسيين، وقد حظي هذا الأب الجديد بنفوذ قوي لدى الرئيس الأول لساحل العاج، هوفوييه بواني، وخلفائه، إلا أن هذا النفوذ لم يعد قائما بعد قدوم الرئيس لوران جباجبو، وقد أرجع البعض ذلك إلى أن زوجة هذا الرئيس قريبة من "البنتكوتيين" المتأثرين بقوة بالهيمنة الأمريكية، كما أنها معادية للاتجاه التوفيقي بين المسيحية والإحيائية، وغير راضية عن المصالحة المعنوية التي يسعى لتطويرها هذا الأب الجديد.
نموذج آخر من ساحل العاج، قريب ولكنه مختلف إلى حد ما، هو نموذج القس كاكو سيفيرين "قس كل الأمم"، فهو رئيس الكنيسة المربعة foursquare، كما أنه يعتبر من رعايا الحركة الإنجيلية، وكانت ظروف وفاته مثيرة بدرجة كبيرة؛ فقد توفي في يوم جمعة مقدس (وافق 13 من الشهر)، أي ذات تاريخ وفاة المسيح؛ وهو الأمر الذي دفع أتباعه إلى تشبيهه بالمسيح، وكان سيفيرين قد بشر بالإنجيل بعد أن هاجر إلى ليبيريا، ومن بعدها الولايات المتحدة وألمانيا، وكان نشيطا في مجالس الرب لاسيما في أبراشية المربعة foursquare التي نشأت بالأساس في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1920، وأصبح مركزها الإفريقي في نيجيريا، وقد طورت هذه الكنيسة الإنجيلية الدولية "علم دين" حديث قائم على عقيدة الرخاء.
بالإضافة لذلك أسس سيفيرين "كهنوت سلطة الإنجيل"، وهي شبكة حقيقية لمراكز الصلوات أو الشفاء، وكانت هذه إستراتيجية سائدة للقيادات الدينية الإفريقية تعتمد بالأساس على استخدام الموارد وشبكة مسميات دولية لتصعيد مؤسساتهم الخاصة بشكل متواز، سواء كانت مركزا أو وزارة، والتي يمكن أن تتحول بدورها إلى كنيسة مستقلة، وهذا هو الوضع مع أبراشية ساحل العاج.
وفي الواقع، فإن هذه الأبراشيات المسيحية المتعددة، والتي تعد نظريا مندمجة بشكل أو بآخر داخل العالم البروتستانتي، هي مندمجة أكثر في نسيج عرقي قبلي؛ وهذا هو ما دفع للحديث عن التوافق بين المسيحية والإحيائية، وبسبب قربها من الشعب وتمتعها من خلال القساوسة بقداسة مؤكدة تساهم هذه المجموعات بلا شك في إضفاء الطابع العرقي على الصراعات السياسية.
من ناحية أخرى، هناك تجمعات كبيرة يدعمها قس ما يجمع الوفود القادمة من نيجيريا وبنين والجابون وفرنسا، ويسمح بوجود تعاون بين المجموعات مثل منتدى الأديان الذي يجمع الإنجيليين والبروتستانت والكاثوليك والمسلمين.
وهناك مواقف مشابهة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وفي كينيا ومدغشقر، وأيضا في الجابون التي تقع فيها الأبراشيات تحت سلطة مجلس الرب هناك؛ وهو أمر ناتج من المهمة الأبراشية التي أسسها الأمريكيون منذ عام 1842، ومن المهمة البنتكوتية لإفريقيا الاستوائية الفرنسية القديمة.
وفي الواقع فإن هذه المجموعات البنتكوتية تتنافس بشكل جدي مع رعايا "الأبراشية" البروتستانت القريبين من الكنيسة الإصلاحية في فرنسا أو الكنيسة الكاثوليكية.
ونرى ذلك في كل إفريقيا، سواء في الغرب أو في الشرق؛ فالتبشير التقليدي البروتستانتي يحدث تحت غطاء الكنائس، ويتم من خلال تعيين القساوسة المشكلين بشكل مناسب.
إلا أن هذه الكنائس قد حل محلها مجموعات بنتكوتية تتسم بالأساس بثنائية قطبية؛ فمن جانب تدين هذه المجموعات بالولاء بصورة أو بأخرى لتقاليد الإنجيل الخاصة بتدفق الروح المقدسة، ومن جانب آخر تعتبر كنائس الشفاء قريبة من التقاليد الإحيائية البلدية، وتساهم في رؤية دينية جديدة رافضة لما أسماه رينيه دوفيتش -من جامعة لوفين الكاثوليكية- "الروح البرجوازية الغربية" التي تتبنى خطابا ينتقد العري وتعدد الزوجات، ويؤكد في الوقت نفسه على أخلاق المساواة الحقيقية بين الرجال.
وفي مواجهة المهام الكاثوليكية والبروتستانتية، تكونت مجموعات مسيحية متمركزة ذاتيا (تحت تأثير المهام الإنجيلية الأمريكية - الإسكندنافية)، استطاعت أن تعايش الحداثة، مع الاحتفاظ بروابطها العائلية الأخلاقية والدينية التي تتضامن مع العائلة الكبيرة، وقد ذكر رينيه ديفيتش أن هذه النماذج تقاطع كل ما فرضه المستعمر الأبيض، ثم من بعده السلطات في البلاد، ثم الخبراء المتطورون، وذلك في جميع المجالات: العمل، والأرض، والسكن، والتعليم، والطاقة، والسلام، والديمقراطية، وحقوق الإنسان.
ويمكن القول إن كل هذه الأمور قد ساهمت في جعل جمهورية مثل الكونغو الديمقراطية غير خاضعة للسيطرة؛ وهو ما يفسر الفوضى السائدة هناك؛ فهذه الاضطرابات الكونغولية المندلعة منذ الاستقلال قد أدت إلى مقتل ملايين الأشخاص ونزوح أعداد هائلة من السكان، ورغم وفرة ثرواتها الطبيعية الغنية، فإن هذه الدولة تحتل المركز 229 من بين 231 دولة من حيث المستوى الاقتصادي بين دول العالم، وهذا الأمر يساعد على دعم انتشار العرقيات المعتمدة على الشعائر المسيحية الإحيائية.
الأديان الإفريقية.. فاعل سياسي
في معظم الأحيان تكون المشكلات السياسية في إفريقيا لها خلفيات دينية، حتى لو لم يظهر ذلك في وسائل الإعلام؛ وهذا هو الوضع في السودان بين شمال البلاد المسلم وجنوبه المسيحي، وفي مدغشقر حيث يدور الصراع السياسي هناك بين رئيس عائد أقدم من رئيس كنيسة المسيح في مدغشقر، ومخطط الانقلاب القريب من الكنيسة الكاثوليكية، بالإضافة لذلك، فإن الرئيس البروتستانتي قريب من الأوساط الأمريكية، بينما نجد أن الرئيس الجديد هو أكثر قربا من فرنسا.
وإذا كانت العلاقات بين الأديان قد ظلت جيدة في السنغال وجامبيا والكاميرون، إلا أنها معقدة في تشاد ومحزنة في نيجيريا؛ حيث نجد -إضافة إلى الصراع المستمر بين المسيحيين والمسلمين- استمرار المواجهات والاشتباكات بين قبائل الجنوب، وهي حوادث غالبا ما تكون مرتبطة بخلافات بين قبائل متعلقة بالانتماءات الدينية بين المسيحيين، والمسيحيين الإحيائيين، والإحيائيين.
ثقل الإسلام في إفريقيا جنوب الصحراء
ومما يغفله البعض هذا الثقل الإسلامي في إفريقيا جنوب الصحراء؛ فعلى الرغم من وجود مستعمر مسيحي بالدرجة الأولى، فإن الإسلام لم يكف عن التطور منذ قرن في إفريقيا، وأصبح هو الغالب في السنغال وغينيا ونيجيريا وحتى في إثيوبيا، وقد ارتبط ذلك بالحملات التي تنظمها الطرق الصوفية (هي ممارسات متسامحة وتقية للإسلام) التي عملت على ترسيخ الإسلام بقوة في غرب إفريقيا.
وقد زاد عدد الفرق الصوفية في الفترة بين 1906 و1996 في إفريقيا ثلاثة أضعاف، وشكلت عنصرا إسلاميا أساسيا رغم تعرضهم لعدة ضربات قوية، وبما أنهم يمثلون الأغلبية في دول مثل السنغال وبوركينا فاسو ومالي وغينيا؛ فقد شكلوا أيضا عنصر استقرار هناك، ونجحوا في التأقلم مع الهجوم الذي تشنه النخبة ذات الميول الغربية، وساهمت هذه الفرق في تطوير إسلام معتدل أصبح اليوم موضع اتهامات حادة في الأوساط المسلمة التقليدية.
وفي الدول التي يسود فيها الإسلام، يكون الوضع أكثر حرجا مثلما هو الحال في نيجيريا؛ فالمسلمون هناك لا يمثلون أكثر من 40% من الشعب، ولكن الظاهر أنهم يشكلون الأغلبية؛ إذ تطبق الشريعة الإسلامية في 11 ولاية من ولايات هذه الدولة الفيدرالية، كما أن الحوادث التي تجري بين المسلمين والمسيحيين والإحيائيين تتجلى بوضوح في ولايات شمال نيجيريا، وترجع في أغلب الحالات إلى عدم سماحة الأوساط المسلمة، ويمكن أن نربط بين هذه الحوادث والتوغل القوي الذي تقوم به بعض الحركات الإسلامية المرتبطة بكل تأكيد بالقاعدة.
وفي السودان، كما هو الحال في الصومال، نجد أن الصراعات المحزنة التي تجري هناك هي بالأساس صراعات بين مسلمين ومسلمين؛ ففي السودان يجب التمييز بين الصراع الواقع في جنوب السودان بين الإسلام والمسيحية والإحيائية، وبين الصراع الجاري في إقليم دارفور والذي هو بالأساس صراع سياسي اقتصادي أكثر منه ديني حتى لو كانت المبررات الدينية تستخدم كغطاء.
وتتهم الحكومة السودانية دولة تشاد بتقديم الدعم للمتمردين المسلمين (التابعين لحركة العدل والمساواة) الذين يرغبون في تصعيد التوجه الإسلامي المسيطر على الخرطوم، بما أن الشريعة الإسلامية مطبقة في السودان وفقا لما نص عليه دستور 1998.
وتشهد تشاد نفس حالة انعدام الأمن؛ فهي أيضا تحتاج إلى حل المشكلات السياسية الداخلية المرتبطة بالصراع القائم بين الرئيس ديبي والمعارضة المتمثلة في "تنسيق الأحزاب السياسية للدفاع عن الدستور"، وهي المعارضة التي يُقال إنها مدعومة من السودان.
وكان متمردون تشاديون قد فشلوا في السيطرة على العاصمة التشادية نجامينا في فبراير 2008، ومن هنا جاءت هجمات المعارضين السودانيين ضد الخرطوم في مايو 2008، ولا يزال الوضع في تشاد حرجا على الرغم من دخول رؤساء معارضة تشاد في الحكومة، وينطبق نفس الشيء على السودان رغم وجود قوات دولية هناك.
أزمات إفريقيا بين الدين والسياسة والعرق
ولو اتجهنا قليلا ناحية الشرق، فسنجد أن الصراعات تتزايد حول إثيوبيا؛ حيث يوجد خلافات دموية مع إريتريا الواقعة في شرق الأزمات الصومالية، وتبلغ نسبة المسيحيين في إريتريا حوالي 20 أو 25% من إجمالي السكان، وبسبب خلافها مع إثيوبيا يتم تشديد الرقابة على المسيحيين الأرثوذكس ويُسمح لهم بالكاد بعقد اجتماعاتهم، كما يُمارس ضغط قوي على التابعين لهم بهدف حثهم على التحول إلى الإسلام، لاسيما في الإقليم الذي دائما يكون في توتر دائم
أما فيما يتعلق بإثيوبيا، فهي تنظر إلى إريتريا باعتبارها أراض لابد أن تلحق بها، ومن ثم ينبغي أن تتحول إلى إثيوبية، إلا أن العنصر الديني كان يقف دائما عقبة أمام تحقيق ذلك؛ فإريتريا صاحبة أغلبية مسلمة، أما إثيوبيا فهي تمثل منذ قرون مجموعات يهودية ومسيحية، وتضم مجموعة من الفلاشا الإثيوبيين الذين تحولوا إلى اليهودية منذ زمن، كما تضم الأرثوذكس الإثيوبيين، وإذا كان يهود "الفلاشا" قد نقلوا إلى إسرائيل، فإن التابعين للكنيسة الأرثوذكسية في إثيوبيا يمثلون من 40 إلى 45% من إجمالي السكان، إضافة إلى أعداد كبيرة من المسلمين، وهناك قرابة 10 إلى 15% من الإنجيليين والبنتكوتيين، ويبدو أن الدولة الإثيوبية تلتزم الحياد في مواجهة هذا التنوع بين المجموعات المختلفة.
وفي شرق إثيوبيا توجد دولة الصومال التي يدين معظم سكانها بالإسلام، ويتم تطبيق الشريعة الإسلامية هناك، إلا أن مسلمي الصومال منقسمون بين عدة مجموعات، مجموعة صغيرة في شمال الصومال (التي خضعت للاستعمار البريطاني سابقا)، وهي تتبع الطرق الصوفية وتمارس إسلاما معتدلا وتقيا، أما غالبية المسلمين الصوماليين فهم يدينون بالولاء التام لقلة قوية من المتطرفين الإسلاميين تسعى لفرض قوانينها الخاصة على الصومال كله.
ومن أجل محاولة دعم الحكومة الشرعية -والتي تعد معتدلة نسبيا- في مواجهة المتطرفين، قامت المنظمات الدولية بتفويض إثيوبيا وجيوشها للتصرف هناك، مع العلم بالأهداف الإثيوبية الموجودة تجاه الصومال في مختلف المراحل التاريخية، وكان هذا الخيار مخذلا بدرجة كبيرة؛ إذ منذ ذلك الوقت استمرت الحرب الأهلية الصومالية واستمرت معها التداعيات المؤسفة التي تعاني منها بعض الشعوب الإفريقية.
ويمكن القول إن أغلب هذه الصراعات الموجودة في إفريقيا تتسم بثلاث سمات؛ فهي صراعات سياسية، وعرقية، ودينية، ولا يمكننا أن نفهم جيدا مشكلات إفريقيا جنوب الصحراء إذا لم نكن على وعي تام بهذه السمات الثلاث، مع العلم بأن كل مجموعة إثنية صغيرة لها دينها الخاص الذي تدين له بالولاء.
ويكفي هنا النظر إلى بعض الخرائط العرقية التي توضح ذلك؛ فبوركينا فاسو ذات ال13 مليون نسمة تحوي أكثر من 15 إثنية، وفي غينيا يوجد ست إثنيات، اثنان منهم فقط هم المسيطرون: "بول" و"بانبرا"، بل وينقسمان إلى مجموعات صغيرة لكل واحدة منهم نظامها الديني الخاص المرتبط بصورة أو بأخرى بدين عالمي (مسيحية أو إسلام)، ومن هنا جاءت عبارتا "المسيحية الإحيائية"، و"الإسلام الإحيائي".
ولكن إذا كانت الكنائس المسيحية تتفاعل بشكل ضئيل أو لا تتفاعل من الأساس؛ فإن الأمر مختلف اليوم داخل المجموعة الإسلامية؛ وهو ما يساهم في تصاعد الإسلام وزيادة انتشاره.
ولعل هذا التكاثر في المجموعات العرقية الدينية يفسر على سبيل المثال عدم الاستقرار النسبي الذي يسود في كينيا؛ حيث يتعايش هناك حوالي 12 إثنية، كما يفسر الاستقرار الذي يعم تنزانيا والتي يعيش فيها الأغلبية المسلمة (80% من السكان) في سلام وتوافق مع الأقلية المسيحية.
ويمكن القول إن حوض الكونغو، الذي هو بالأساس كاثوليكي، هو عبارة عن فسيفساء من الإثنيات والأعراق الصغيرة التي تحاول ملائمة كاثوليكيتها مع التقاليد الإحيائية؛ فقد سعت الكنيسة للتفاعل، إلا أن هذا الأمر قد أدى في أحيان كثيرة إلى صعود الكنائس التي تسمى ب"الإنجيلية".
وتساعد الخريطة الإثنية للكونغو على فهم هذا الوضع؛ فبالنظر إلى حالة "زائير السابقة" نجد أنها تضم أكثر من 30 إثنية، تنقسم كل واحدة منها إلى مجموعات صغيرة تتراوح بين 15 إلى 20 مجموعة، كما تنقسم الإثنيات الثلاثون إلى أربع مجموعات كبيرة: السودانيون، والهاوسة، والبنانتويد، والبانتوس، وحتى في الجابون المجاورة هناك 12 إثنية على رأسها البانتوس والهاوسة.
أستاذ في جامعة باريس الرابعة (السوربون)، وشغل سابقا منصب رئيس معهد الدراسات السياسية في ستراسبورج، ومدير مركز الدراسات الألمانية ومعهد الدراسات الأوروبية العليا.
(1) الكاثوليكية:
أكبر طوائف الدين المسيحي، يقع مركزها في مدينة الفاتيكان، مقر بابا الكاثوليك، يعتقد الكاثوليك بالثالوث؛ فيقولون بإله واحد فيه ثلاثة أشخاص: الأب والابن (المسيح) وروح القدس، وهو ما يعرف بالأقاليم الثلاثة، ويعتقدون أن كل واحد من الثلاثة متميز، وأنه إله حقيقي.
(2) البروتستانتية:
تم تشكيل أفكار البروتستانتية كرد فعل على بطش الكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى على يد راهب إيطالي يدعى Girolamo Savonarola كان ممارسا للطب في إيطاليا وتعرض لبطش محاكم التفتيش البابوية، وانتهت تلك الأفكار بالتسبب بمقتله، ولقد انقسمت الحركة البروتستانتية إلى كنائس عديدة، وطوائف مختلفة نتيجةً للإيمان بمبدأ الحرية الفردية في فهم وتفسير الكتاب المقدس لكل فرد من المؤمنين بالمذهب البروتستانتي.
والبروتستانت لا يعترفون بالمظهر الكاثوليكي، ويرفضون رئاسة البابا وينكرون الوساطة السماوية (إكرام القديسين والملائكة والعذراء، وعبادة الأيقونات). ويختلفون عن الكاثوليك والأرثوذكس في أمور عقائدية وكنسية كثيرة.
ومن أبرز الكنائس البروتستانتية:
1- المشيخية: وضع جون كالفن الأسس اللاهوتية للكنائس المشيخية وغيرها من الكنائس الإصلاحية في سويسرا خلال القرن السادس عشر، وركز كالفن على سيادة الله في جميع المسائل، والمشيخية هو الاسم الذي أُعطي للكنيسة التي أنشأها أتباع كالفن في أسكتلندا، تحت إمرة جون نوكس، وأصبحت الكنيسة المشيخية هي الكنيسة الرسمية لأسكتلندا، والكتاب المقدّس هو المصدر الوحيد للسلطة.
2- اللوثرية: بدأت اللوثرية في عام 1517 مع الثورة الدينية التي أطلقها مارتن لوثر في ويتنبرغ في ألمانيا. وازداد عدد أتباع لوثر في ألمانيا والبلدان الإسكندنافية، واعتبر لوثر أن الكتاب المقدس هو مصدر السلطة الوحيد القادر على تحديد المعتقدات والشعائر، ومن المعروف أن مسألة السلطة كانت إحدى أهم نقاط الخلاف بين لوثر والكنيسة الكاثوليكية في روما، وهناك أكثر من ست عشرة فرقة لوثرية حول العالم.
3- الميتودية: هي فرق وكنائس لها طابع ديني خاص، حيث يطالب منتسبوها بالعدالة الاجتماعية والمساواة ويحاربون العنصرية، لذلك انضم إليهم أعداد كبيرة من الملونين، ولهم مجلس عام من خمسين عضوا يمثلون أكثر من خمسين مليون ميتودي في العالم.
(3) الإنجيلية:
ظهر اسم الكنائس الإنجيلية عقب حركة الإصلاح الديني وما بعد، وقد أطلق مارتن لوثر زعيم هذه الحركة على أتباعه دعاة الإصلاح لقب "جماعة الكنيسة المصلحة" التي تتمسك بتعاليم الإنجيل وتتبع تعاليم الكتاب المقدس وحده، وترفض كل ما أضيف إلى العقائد المسيحية التي كانت أيام الرسل.
وقد سمت الكنيسة البروتستانتية نفسها بداية بالكنيسة الإنجيلية، إذ عمت هذه التسمية لتشمل جميع مخالفي الكنيسة الكاثوليكية، لكن المصلحين رفضوا التسمية ودعوا أتباعهم ب"الإنجيليين"، ثم صارت الإنجيلية مرادفة للبروتستانتية حتى زاحمتها وطغت عليها منذ عام 1817 لأن كلمة "البروتستانتية تحمل معنى الاحتجاج والسلبية في حين يسعى المسيحيون اليوم نحو التفاهم والاتحاد والوحدة، وغالبية الكنائس اليوم باستثناء الكاثوليكية والأرثوذكسية (مستقيمي الرأي) تحمل اسم «إنجيلية» مقرونا بالصفة التي تميزها من غيرها من الكنائس، وتقوم مبادئهم في الدرجة الأولى على الأخذ بتعاليم الكتاب المقدس (الإنجيل)، ورفض أي سلطة روحية أرضية على الكنيسة، فالسيد والرئيس الأعلى للكنيسة هو يسوع المسيح عليه السلام.
وتنتشر الإنجيلية في جميع بلدان أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا، وهي مذهب العديد من الدول كالدنمارك وبريطانيا والنرويج والسويد وهولندا وسويسرا، ولها أثر قوي في التاريخ الثقافي والسياسي لتلك الدول لارتباطها بالقومية والديمقراطية والرأسمالية والنزعة الفردية.
ومع الوقت اختلف الإنجيليون في طريقة تفسير الكتاب المقدس وفهمه وأساليب العبادة، ووجد كل منهم مؤيدين وأتباعا، وساعدهم على ذلك اعتقادهم بأن الإيمان المسيحي مسألة شخصية وفردية ولا سلطة تمارس على المؤمن سوى سلطان كلام الله المدون في الكتاب المقدس كما يفهمه المؤمن، بإلهام من الله ووحي من ضميره، هكذا أخذت الدعوة الإنجيلية الإصلاحية تتفرع فرقا وطوائف حتى كانت عند توقيع صلح وستفاليا عام 1648 أكثر من 180 فرقة تسمي ذاتها إنجيلية، ومن أشهر هذه الفرق الآن، والتي باتت تكاد تشكل مذهبا بمفردها ما يلي:
1- الإحيائية: هي ديانة تضمينية شاملة تقوم على الاعتقاد بوجود نفس أو روح (anima باللاتينية) في كل ما له مظهر مادي مفرد سواء كان بشرا أو حيوانا، نباتا أو جمادا. فالإحيائيون ينسبون روحا لكل الظواهر الطبيعية.
وفي عادات الشعوب الإحيائية يتم قبول المعتقد الديني الجديد بدون تعارض مع مبادئهم؛ حيث إن الديانات الجديدة تنصهر في مذهبهم القائل بوحدة الوجود، وينظر الأنثروبولوجيون إلى الإحيائية (أو الأرواحية) على أنها الدين التقليدي في إفريقيا، وأنه إذا صح بأن الشعائر والتطبيقات تختلف بين الإثنيات والقبائل، فإن الجوهر يبقى هو نفسه عند الجميع.
وكان أول من نبه إِلى هذا المذهب الأنثربولوجي الإِنجليزي إِدوارد تايلور (1832- 1917)، حيث حلل عددا من الشروح التي تُقدم عند تلك الأقوام في التدليل على القول بالروح والجسد، ورأى في هذا الاعتقاد الأصل في الاعتقادات الدينية لدى تلك الأقوام، وما تزال نظريته هذه أساسا لدى بعض الباحثين في فهم الأفكار الدينية التي تسود الأقوام البدائية.
ويرى تايلور أن أصل الإِحيائية عند من لديهم هذا الاعتقاد يعود إلى تجارب النوم والمرض والموت؛ ففي حالات النوم تنفصل الروح عن الجسد وتحيا حياتها الخاصة، ويدلل على ذلك الأحلام التي تحدث لدى النائم، وفي حالات المرض آثار على تدخل الأرواح الأخرى التي تكون موجودة في عالم حول الإِنسان، ويدل على ذلك أن الإنسان يرى في منامه روح أحد الأقارب أو الأصدقاء وتتعايش روحه معها، وكثيرا ما تسبب له الارتباك والتعب والمرض ولولا وجود الأرواح الأخرى لما جرى هذا اللقاء والتعايش، يضاف إِلى ذلك أن الإنسان (وكذلك الحيوان) قد تتملكه روح أخرى أو تتلبسه، ويبدو لديه تصرف غير ما كان معروفا عنه من قبل؛ أما مفارقة الروح الجسد نهائيا فيدلل عليه حدوث الموت.
2- المعمدانية: بدأت حركة المعمدانيين في سويسرا ثم انتقلت إلى النمسا حيث تأسست أول طائفة في عام 1608، ثم قام روجر وليمز Roger Wiliams بإنشاء أول كنيسة معمدانية في مدينة بروفيدانس، وأراد هؤلاء العودة بالمسيحية إلى العهد الرسولي؛ فاختاروا سبيل التسامي والتصوف ومبدأ التجديد الشخصي، وسمحوا بالعماد لمن آمن وتاب من البالغين معلنا ذلك جهارا في الكنيسة، ومنعوا عماد الأطفال لأنهم لا يملكون زمام أمورهم، لكنهم كسائر الإنجيليين يؤمنون بخلاص جميع الأطفال المتوفين قبل سن التمييز ولا "خطيئة" عليهم.
ويعود الفضل إلى المعمدانيين في إقناع العالم المسيحي بضرورة فصل الدين عن الدولة تحقيقا لمبدأ "أوفوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" (لوقا20: 25) وكانت حجتهم القول بأن العبادة الحقيقية لله هي التي يمارسها الإنسان بحرية تامة وقناعة ضميرية، وعلاقته تكون مع الله مباشرة من دون وسطاء ولا نيابة لأحد عنه.
3- البنتكوتية "الخمسينية" (الإنجيليون الجدد): كان الظهور الأول للبنتكوتيين في عام 1901 في توبيكا في ولاية كانتاكي الأمريكية، وتشير عبارة الخمسينية إلى حركة واسعة من المجموعات التي تمارس طقس النطق بالألسن والقداسة، وهي في الأصل حركة دينية بروتستانتية ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية في أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وتتميز هذه الحركة بالإيمان بأن جميع المسيحيين بحاجة لأن يعيشوا اختبارا فريدا لكي يكونوا مسيحيين فعلا، ويسمى هذا الاختبار بمعمودية الروح القدس.
وقد واجه التيار الخمسيني مقاومة عنيفة في بادئ الأمر ومازال يواجه مقاومة حتى اليوم، ومع ذلك "فالكنيسة الإنجيلية الخمسينية هي اليوم أسرع الكنائس انتشارا" في العالم. وكانت مجموعة من المؤمنين يصلون بحرارة من أجل حلول الروح القدس عليهم كما يعد الكتاب المقدس المؤمنين، وكما حل في بادئ الأمر مع ال120 في اليوم الخمسين.
وبينما هم يصلون بحرارة، انسكب عليهم الروح القدس بقوة وبدئوا يتكلمون بألسنة أو لغات جديدة مثلما حدث مع الرسل في اليوم الخمسين، وبدأ هذا الاختبار المعروف بالكتاب المقدس بمعمودية الروح القدس، وينتشر في الكنيسة الإنجيلية بشكل سريع، وبدأ قوة الروح القدس في الكنيسة تسري من جديد وما يتبع ذلك من شفاءات وتحرير، ومن هنا أتت تسمية الخمسينيين لتعني المؤمنين الذين يؤمنون باختبار معمودية الروح القدس والذين اختبروه على كل حال، والمسيحيون الخمسينيون ليسوا مجبرين على التخلي عن كنائسهم الأصلية التي ينتمون إليها في حال انتمائهم للحركة الخمسينية.
وتفضل الطوائف والإبراشيات ذات التوجه الإنجيلي الجديد أو البنتكوتي استقلال المجموعات الصغيرة حيث ساهمت في توطيد التوجهات القبلية والانغلاق على الإثنية، كما أنها تدعم رفض أي سلطة للدولة، وهذا يسهل -من وجهة نظر كاتب الدراسة فرنسوا جورج دريفوس- الصراعات بين المجموعات والدولة؛ مما يشكل عائقا أمام التطور الاجتماعي والثقافي والاقتصادي الذي تتظاهر بأنها تدعمه، فهي عنصر أساسي في انعدام التنمية وانعدام الأمن المستوطن داخل العالم الإفريقي في جنوب الصحراء


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.