لم يكتفِ منصور خالد ببث هذه الدعاوى الفاسدة، حتى شاء أن يبتز أهل السودان الشماليين، بقصة فظيعة تدين سادته الغربيين، ولا تدين أهل شمال السودان بشيء، هذا لو كان منصور خالد يعي حقاً ما يقول! وهي قصة امرأة جنوبية مسلمة، باعها النخاسة الأوروبيون للقنصل الإيطالي بالخرطوم، وأخذها هذا إلى روما، حيث تم تنصيرها، وسميت جوزيفينا.. وقبل سنوات قلائل، قام بابا الفاتيكان السابق بإعادة ذكراها ومنحها لقب «قديسة»! القديسة المرتدة عن الإسلام وهذه قصة عادية من قصص فجائع التاريخ، فكمٌّ عديدٌ من المسلمين كان ضمن من جرى استرقاقهم وتنصيرهم على يد المستعمرين الأوروبيين.. وقصة مثل هذه أحرى بها أن تثير حنق المسلمين المعاصرين، وتفجِّر كوامن غضبهم على المستعمرين الغربيين، الذين اجتالوا بعض أسلافهم عن الدين القويم.. ولكن منصور خالد يريد من المسلمين أن يحتفوا بهذه القصة مع الكاثوليك! وفي هذا يقول: «وابتهج الكاثوليك السود في كل أنحاء العالم بهذه المناسبة، عدا في السودان لم يكن الحدث جديراً بأن يتناوله الإعلام السوداني الذي تسيطر عليه الحكومة ولا صحافة الخرطوم المولعة بالتحري والتقصي، ولا استحقت تلك السيدة الفريدة التي صعدت من العبودية إلى القداسة الذكرى في البلد الذي يفترض أنها تنتمي إليه». فيا لهذا من حشف ردئ يبيعه لنا منصور خالد في تطفيف بالغ وسوء كيل! فكيف يريدنا باسم تقديس ماضينا التاريخي غير الإسلامي، أن نهلل لارتداد واحدة منا، ارتدت لا عن قناعة، ولا عن ظرف حر، وإنما عن ظروف الأسر والقهر والقسر؟! وكيف يسوق إلينا منصور خالد هذه القصة الأليمة الموجعة ثم لا يعزينا فيها، بل يطلب منا أن نفرح بها، ونبتهج ونُسَر؟! لماذا مُنحت درجة القداسة الآن؟! ثم ماذا عن هذه القداسة الدينية التي يمنحها شخص لشخص؟! هذا من أعمال الجاهلية البدائية التي لا نؤمن بها نحن المسلمين.. إننا في الإسلام لا نؤمن بشيء من مثل هذا ولا نجعل من شخص حكماً على إيمان شخص آخر! فكيف يريدنا منصور خالد أن نبتدع في ديننا الكريم، ونخالف هديه القويم، ونضل عن سواء الصراط، ونُحجِّر واسعاً، وندخل في جحر الضبِّ الضيق مع من بدلوا دينهم وحرّفوه، واتخذوا آيات الله هزواً؟! وثمة سؤال مشروع لا بد أن يُثار في هذا المقام، وهو: لماذا لم تمنح درجة القداسة الدينية هذه للمرتدة بخيتة من قديم الزمان؟! ألأنها امرأة سوداء وصلت إلى الغرب في حين كانت فيه أوروبا والبابوية وكنائسها لا تعد السود بشراً كغيرهم من عبيد الله؟! ولماذا تذكَّر البابا هذه المرأة الجنوبية المرتدة في هذا الوقت بالذات؟! أما في ذلك من إشارة واضحة قدمها البابا لدول الغرب، لكي تضاعف من جهودها في دعم حركة التمرد، وتسليحها، بغرض أن تتمكن من تنصير المسلمين السودانيين كما يرومون؟! بلى وإن منصور خالد لأدرى بذلك كله، وبدسائسه، وخفاياه، مني ومن الناس أجمعين! إن هذا التطرف الفكري المغرض، المغالَى فيه، والذي لم يبال منصور خالد أن يَلِغَ فيه، ويلغوا به، لم يصل إلى عشر معشاره الدكتور عبد المجيد عابدين، الذي كان المحجوب يزمع أن يدهسه في محاضرته تلك على مرأى من الناس. وما أدري ماذا كان المحجوب فاعلاً بمنصور خالد، لو تجرأ، وجاء ليتقيأ شيئًا من أقواله هذه، وتقيَّح هكذا، بحضرته يومذاك؟! عار الدهر إن جلَّ ما قاله منصور خالد أو أوحى به في هذا المضمار، هو محض وهم وبطلان وخطل وختل.. حيث لم يحدث أن قام أحد بتضييق مجال الفكر أو النشر، أو قاوم أي محاولة لخدمة التراث الوثني والنصراني في السودان، وذلك لأنه لم يقم أحد من أنصار هذا التراث، ولا من دعاته، ولا ممن يتلفعون بشعارات الدفاع الزائف عنه، ولا من مناوئي الثقافة العربية الإسلامية بأي محاولة جادة في سبيل إحيائه، أو تطويره، أو نشره وإقناع الناس به. لذا فليكف منصور خالد عن اتهام الشماليين، وإرهابهم، وابتزازهم بمثل هذه الأقاويل التي طفحت في محاضرته، التي ألقاها بلندن عن أديبنا وشاعرنا الكبير محمد أحمد محجوب. ليكف منصور خالد عن هذا بعد أن كفَّ مضطراً وهو حسير عن تحذير الشماليين المسلمين، وإنذارهم، وتوعدهم بأنهم على وشك أن يسقطوا سياسياً وحضارياً، وأنه يوشك أن يأتيهم ليحطم ثقافتهم وحضارتهم وإرادتهم، ويسيطر عليهم وعلى دنياهم، من لا ينتمي إلى عرقهم، ولا إلى ثقافتهم ولا إلى دينهم! وذلك هو فيض الكلمات الشاهدات، الشائهات، الشانئات، التي أفضى بها منصور خالد في لحظة من لحظات الرعونة، وطغيان الهوى، ودلَّ بها على ما في نفسه من ضعف الإحساس، وقلة التهذيب، وعدم الانتفاع بدروس التاريخ، وسوء التقدير لأحكام الثقافة الاجتماعية وسلطانها، فضلاً عن نفاقه الناضح بالغي، حين تشبث، وأطال التشبث بأهداب الديمقراطية، ثم لم يصدر عنها، وعن قيمها، وأطرها، في أخطر أحكام العنت، والعسف، والجور، التي أصدرها على مصائر الشأن الثقافي السوداني. ولولا سيطرة الضغن على منصور خالد، واستحواذه عليه، واستبداده بعقله، وتعطيله لإرادته، فقد كان مثقفاً كبيرًا مثله مرجواً أن يدرك أن ثقافات الشعوب، لا يمكن أن تنسخها سطوة الأحكام القسرية، ولا قسوة الأوضاع الاستبدادية، مهما استطال مكرها وكيدها، وتضليلها، واستغفالها للشعوب. وهذه العبرة القوية من عبر التاريخ وأحوال الاجتماع البشري، أدركها مفكرنا وزعيمنا الوطني الماجد محمد أحمد محجوب بثاقب وعيه، ونفذ إليه بحكمته العميقة الراسخة، فبدا له أن سلطة الاستعمار البريطاني، التي لم تتمكن طوال أربعين عاماً، هي مدة مكثها في البلاد إلى حين ألقى محاضرته، من أن تطمس ثقافتها العربية الإسلامية، لن تتمكن من إنجاز تلك المهمة فيما بقي لها من عمر قصير. استيقن أن طلائع المتعلمين السودانيين، من غير شاكلة منصور خالد وهي شاكلة كانت قليلة التعداد لن تنطلي عليها مكائد المستعمرين. ولذلك بشر بعودة أمتنا إلى منابع دينها وثقافتها عن قريب وهذا ما تحقق بحمد الله. الشمالي الآبق أما هذا الشمالي الآبق منصور خالد، فقد ظن أن بندقية التمرد الجنوبية التي شارك في توجيهها نحو صدور الشماليين المسلمين، قادرة على دحر الثقافة العربية الإسلامية السودانية بين عشية وضحاها! ولذلك تورط في إصدار نبوءته تلك «الإرهابية» التي باح بها في أواخر ثمانينيات القرن الماضي. وهي النبوءة التي ستظل الجزء الخالد من تراثه الفكري وستبقى عاره أبد الدهر!