شهد محاضرة المحجوب الأخيرة عدد من من قادة التيار الثقافي الإفريقي المحترمين، منهم الأستاذ الكبير النور عثمان أبكر، رحمه الله، ونال فرصة للتعقيب على حديث المحجوب، وجاء خطابه متزنًا أعرب فيه عن فكرته الداعية إلى تأصيل الثقافة الإفريقية في السودان، وتحدث بتهذيب وتعقل، من دون أن ينازع المحجوب في فكرته عن العروبة، إذ ليس بين الفكرتين نزاع من حيث التأصيل. وزاغ عن شهود المحاضرة أرباب الزيغ، وعلى رأسهم الدكتور منصور خالد، صاحب النخبة الفاشلة، والسفاه الذي لا حلم بعده. ومع أنا لم ندعُه للمشهد، إلا أنا كنا نتمنى أن نراه في النَّدِيِّ. تراكمت أوزار منصور خالد، وإصره، وأغلاله النفسية، ولا تزال تتراكم، وتتثاقل، وتثقل كاهله، وتنقض ظهره. فقد تتلمذ قديماً على محمد أحمد محجوب في مهنة القانون، ولكنه بما عُرف عنه من قلة وفاء لمعارفه، وغدر بأصدقائه، تنكّر له وجفاه. وزادت رزايا منصور خالد ثقلاً، بانخراطه في خدمة النظام الديكتاتوري، نظام ضباط الجهل المسلح، الذين أطاحوا المحجوب عن رئاسة الوزراء. وتفاقمت جرائر منصور خالد بتوليه عبء الدفاع الخطابي، والكتابي، المتطرف، عن هذا النظام الفاسد، وسب خصومه الشرفاء، في الساحات والمحافل الخالية، التي يسهل عليه فيها أن يمارس الطعن والنزال! حيث لم يكن الدكتور منصور خالد من شاكلة الرجال الفرسان، الذين يمكن أن يثبتوا لمنازلة المحجوب ومقارعته. وجبن عن لقائه، حتى وهو شيخ مريض مهيض. ولم يأت لشهود تلك الليلة ذعراً من حضرته، وهيبته، وجسارته، واستعداده الأكيد، الناجز، الماضي، وعدم تردده في تهشيم خصومه، اللُّدِّ، المراوغين، من أمثال منصور خالد. وهكذا آب منصور خالد إلى خليقته وسجيته، وفضَّل أن يتماشى مع شيمته الشخصية، الملازمة له، أبد العمر، تلك الشيمة التي لا تمتّ إلى المروءة بصلة. فانتظر المحجوب حتى انقضت أيامه في الدنيا، ثم أتى ليتخرص عليه، ويحشد في أفقه التاريخي، الدعاوى، الخائرة، البائرة، التي هي محض أكاذيب! هذا زمانك يا مهازل فامرحي بقي منصور خالد صامتاً، ثم جاء بعد ربع قرن من وفاة المحجوب، فألقى محاضرة عنه، بلندن، ناقش فيها دعوته ونبوءته الثقافية، التي لم يتجرأ قط على مناهضتها قبل وفاة صاحبها، ولكنه جاء بعد ذلك ليقول عنها قولاً نكراً، زاعماً أن فيها: «ما يرقى إلى هيمنة عنصرية ثقافية»! نعم، والله، إلى هذا المدى في التجرئ، غير المتحري، ذهب منصور خالد، بعد أن أمن بأس المحجوب وشدته، إذ غيبه الردى. فجعل يطيل عليه من اللجاجة في الخصام، ويصاول مقامه الفكري العليِّ، ويزوِّر كلامه البيِّن الفصل، ويدسُّ فيه ما لم يتضمنه من سقط القول. كل ذلك ليمهد لمناوشته بشعار «التهميش» الرائج ابتذاله في هذه الأيام، من قبل العنصريين ودعاة التمرد وأرباب التخريب. التَّزيُّد على المحجوب قال منصور خالد، وهو يعبث بكلام المحجوب، ويتزيد عليه، ويضاعف له في الذم: «في تلك المحاضرة أكد المحجوب أن الثقافة السودانية «المميزة» يجب أن تقوم على الموروث العربي الإسلامي مدعومًا بفكر أوروبي بهدف تطوير أدب وطني حقيقي يستمد شخصيته وحياته من تقاليد شعوب هذا البلد ومن صحرائه وغاباته، وكلمة «مميزة» ربما أراد بها المحجوب تمييز هوية الثقافة السودانية عن المصرية وبقية البلدان العربية الأخرى، ومن هنا يبدو أن المحجوب كان يعي تماماً خصوصية الثقافة السودانية، ولكن عندما أراد الإسهاب في هذا الموضوع أشار فقط الى نقطتين تاريخيتين هامتين: الأولى هي الماضي البعيد والذي حسب رأي المحجوب، تأثر «بالوثنية والحضارة الفرعونية والأديان السماوية الأخرى» والثانية هي «العروبة الإسلامية» وصرف نظره عن النقطة الأولى فيما يشبه المحو والتجاهل في حين أسهب في مسألة العروبة الإسلامية قبل أن يعرج على مساهمة الفكر الأوروبي المزعومة على الثقافة السودانية. أما التأثير التاريخي والمعاصر للثقافات الإفريقية الأخرى على الهوية الثقافية السودانية، فقد كانت طي النسيان في تلك المحاضرة، ولكن إذا تم تجاهل الآثار التاريخية النوبية والمسيحية، لماذا نتوقع من المحجوب أن يلتفت إلى الثقافات الإفريقية المعاصرة، ولكن مرة أخرى لماذا رسم المحجوب وكل المثقفين الشماليين على أيامه مثل هذه الخارطة الناقصة المعيبة للثقافة السودانية. وهكذا تطاول منصور خالد على المحجوب، مستخلصاً من كلامه، أنه يتعالى على جزء من ماضيه، وكأنما كان المحجوب ملزماً بتقرير ما يقرره منصور خالد، وغيره من وكلاء الغزو الفكري الصليبي والتغريبي، من ضرورة إرجاع المسلمين إلى ماضيهم قبل الإسلام!! لقد ذكر المحجوب ذلك الماضي الآفل، ولم يتجاهله، واكتفى بإعطائه قيمته الحقيقة، وهي قيمة تاريخية متقادمة، وليس لها تأثير كثير على الحاضر، اللهم إلا عند دعاة التنظير «الإيديولوجي»، غير العلمي، من أمثال منصور خالد، وزمرته من المناوئين للعروبة، وثقافتها، هؤلاء الذين يزوِّرون صورة الحاضر، ويزوقونها، لتتماشى مع ما في أذهانهم الكليلة، من صور التاريخ الوثني البعيد. تحريض منصور خالد على الشماليين وزاد منصور خالد على ذلك فافترى على المحجوب أنه بالرغم من أنه كان على المستوى الثقافي: «مؤمناً راسخ الإيمان، بالديمقراطية وكان مدافعاً غيوراً عن المساواة والعدالة، لكنه كان أيضاً المدافع الناطق بوضوح عن الإستراتيجية الشمالية الشائعة وهي أسلمة وتعريب الجماعات الإفريقية غير المسلمة في السودان كي تتم الوحدة». وكدأبه في إشعال نيران الفتن ونشر مشاعر الكراهية، وتأليب غير المسلمين على المسلمين، وتهييج الجنوبيين على الشماليين، زعم منصور خالد أن المحجوب برهن بمحاضرته تلك على عدم حساسيته تجاه الدين النصراني: «الذي ينتظم عدداً لا يستهان به من السودانيين». وزعم أن هذا الموقف الذي طمس به المحجوب تراث الديانة النصرانية في السودان: «هو في الواقع عدم إحساس بمعتنقي هذا الدين وهو موقف ثابت إلى اليوم، رغم كل هذا الضجيج عن احترام التعددية الدينية». وبالطبع فليس لنا، ولم يكن للمحجوب، وليس للشماليين، من متدينين، وغير متدينين، من موقف ديني سلبي، تجاه نصارى السودان، فهم مواطنون مثلنا، لهم ما لنا، وعليهم ما علينا. ولكنا نقرر بعد ذلك، حقيقة لا ينكرها أكثر نصارى السودان، وهي أنهم، في غالبيتهم العظمى، جاؤوا نتاجاً لحركة التنصير الحديثة، ولم يكونوا امتداداً للنصرانية السودانية القديمة، التي يتحدث عنها منصور خالد، ولا كانوا من مذهبها الديني، في شيء، بل اتبعوا مذهباً مخالفاً له، تمام المخالفة، وهذا ما يشهد به علماء مقارنة الأديان، الراسخون في علم الأديان. ثم إن عدد نصارى السودان في الوقت الذي ألقى فيه المحجوب محاضرته، كان ضئيلاً جداً، بحيث لا يأبه به الباحث المنصف المجد، ولعلهم ما كانوا يزيدون على واحد بالمائة من تعداد السكان، فكيف يراد من المحجوب أن يجعل لهم كل هذا الشأن، الذي يمنحهم إياه، منصور خالد، الذي يحرضهم الآن، ويستعديهم، على مسلمي السودان؟!