ضمن برنامج ليالي السودان برعاية النائب الأول لرئيس الجمهورية الأستاذ علي عثمان محمد طه، وتحت شعار (ياهو دا السودان).. كانت ليلة شمال كردفان من أروع الليالي حيث استلهمت تاريخها وكفاحها.. كانت الأصوات تهتف وتنشد كردفان بكل المفردات واللهجات، ولقد تجمعت الأفكار وتفاعلت وضج المسرح الداخلي لقاعة الصداقة وأدرك الجميع أن الغناء والشعر الشعبي الجميل فيه كسب ومنافع من خلال عرضه لصور وجماليات الطبيعة والموروث التاريخي والفكري.. في تلك الليلة لقد شاهدت قرى ووديانًا وخيرانًا وأبطحًا ورمالاً، شاهدتها في صور ذهنية وعايشتها في كل ما استمعت إليه من شعر وأدب وغناء!! الخرطوم وشوارعها كانت نايمة في تلك الليلة فأيقظتها أصوات الحناجر وضرب الأرجل للأرض فعرف الجميع هنا كردفان تنشد الوطن والسلام والوئام، قمة الطموح والسعادة أن يعرف الناس مجدك وتاريخك وأهل كردفان مجدهم وفخرهم تجسده «شيكان وقدير» وكذلك.. الأزهري، وإسماعيل الولي و«المكي» نحن نعيش في زمان تستعرض فيه الشعوب والأمم طاقتها الفكرية في الاقتصاد والسياسة والاجتماع لبلوغ أهداف ومنافسة بل مناهضة الواقع، ففي ليلة أم الرجال قد أحسن الشاعر الشاب ناصر قاسم عثمان بريمة وهو معروف ابن شاعر كردفان الكبير «قاسم عثمان» الملقب بأمير شعراء كردفان.. «ناصر» أحسن في قصيدة «القطار» وهو ينشد ويتحسر على حال «القطار» ويذكِّر بماضيه التليد ودوره في الاقتصاد وتقريب المسافات ونسج خيوط التعارف بين أبناء الوطن في أسلوب وصفي رائع وملهم وهو يرتدي «الأيرول» زي الكادحين، وعلى ذكر «ناصر» لا نستطيع أن نغادر دون نتحدث قليلاً عن الشاعر الكردفاني النحرير قاسم عثمان بريمة ومساجلاته الشعرية ومجادلاته مع الشاعر الكبير حدباي أحمد عبد المطلب الذي عمل كاتب «دونكي» في كردفان، مدن أم روابة والنهود ثم الأبيض وهو القادم من كسلا إلى كردفان وكثيرون كانوا يتساءلون عن سر العلاقة والجمال الرابط ما بين كسلا وكردفان فاتضح أنه سر الجمال وطيبة وحسن معشر الإنسان في المنطقتين، «حدباي» ارتبط وجدانياً بكردفان وإنسانها وكانت بينه وبين قاسم عثمان بريمة مراسلات شعرية وهناك معلومة قد تكون خافية على الكثيرين وهي أن الشيخ «ود درو» المدفون وسط (مدينة الأبيض) وتحديداً توجد قبته في المنطقة جوار حلواني جروبي هو في النسب عم الشاعر (حدباي) شقيق والده وهو الذي سمى عليه حتى (ود درو) الشهير في أم درمان مثله وحيِّ ود المكي المنسوب للشيخ المكي رجل كردفان، و(حدباي) قضى الأربع سنوات الأخيرة من عمره، قبل أن ينتقل إلى أم درمان، قضاها في الأبيض يلتقي صديقه الشاعر الراحل قاسم عثمان بريمة ولا يستطيع أن يفارقه أكثر من أربع ساعات متواصلة دون أن يلتقيا، نعود إلى أمسية (أم الرجال) شدا فيها الدكتور عبد القادر سالم وغنى للتبلدية رمز العزة والشموخ وكانت فرقة فنون كردفان قد تفاعلت مع ايقاعات الأغنية وتوزيعها الموسيقي بصورة هي الأعنف فنياً رغم أن الفرقة قد تصدعت ولم تعد كسابق عهدها، كانت ليلة عبّرت عن موروث كردفان الكبرى، كان المردوم والنقارة والجراري، كانت نماذج لكنها أثارت ضجة القاعة بصورة تجاوزت صخب الخرطوم، أما بلوم الغرب عبد الرحمن عبد الله فقد استدعى عميق تاريخه بصوته الطروب، فرغم تطاول الليل لكن (ود بارا) بأغنية (بريق المزنة يا ماطر) قد بدَّد شعاع الفجر الشاحب وقد تبين للجميع كيف أن الشعوب تتفاعل مع موروثها وفنها الأصيل الذي يعبِّر عن بيئتها.. الوسيلة عبد الرحمن الشاعر الفصيح كان مبهجاً في مهرجان شمال كردفان بقاعة الصداقة فقد استدعى كل تاريخ وفراسة وكرم ونبل أهل كردفان في قصيدة كانت هي الأجمل، وهنا برزت المقارنة واضحة ما بين الذي يبذل طاقته في التسلية وإشباع خيالاته العلمية وما بين الذي يصرف طاقته في التأمل والاكتشافات في الوجود وتحفيز المجتمع للتمسك أو الاحتفاظ بالموروث الجميل والمكمل لمكارم الأخلاق، كانت قصيدة تستمد مغزاها من طيبة إنسان البادية وكيف أن الكلمة تساهم بشكل فاعل في بعث الحركة والروح والأمل. سرني الحضور الأنيق للأستاذ معتصم ميرغني والي شمال كردفان وحضوره الفعالية حتى الختام في لفتة بارعة جداً تكشف اهتمامه بالثقافة وتأكيد أنها تقود الحياة طبقاً للشعار المرفوع، عدد لافت من قيادات ورموز الولاية بالمركز حضروا الفعالية إبراهيم آدم ابراهيم الدكتور آدم بلوح وزير الإعلام بالولاية مبارك حامد أيضاً كان حاضراً ومتفاعلاً لكن غاب نواب البرلمان من أبناء كردفان!! الموسيقار يوسف القديل قاد الفرقة الموسيقية بقدرات عالية بذات إبداع فرقة فنون كردفان بقيادة الموسيقار محمداني مدني، كردفان الكبرى وجدانها واحد كما السودان وليالٍ مثل مبادرة النائب لرئيس الجمهورية من شأنها أن تصبح من الوسائل الناجعة لقتل الرتابة وتقريب المسافات السياسية والاجتماعية بين مكوِّنات المجتمع في وطن تباعدت فيه المسافات بفعل المؤامرات والدسائس، هذا إلى أنها وسائل مهمة للتوثيق وأن تاريخ وماضي الشعوب يُقرأ من خلال مثل هذه العروض الرائعة!!