هنالك بون شاسع وفرق واسع بين فساد الراعي وفساد الرعية.. إن فساد الرعية هو في إتيان المنهيات وارتكاب المعاصي وإساءة التعامل.. هو في الفاحشة والفحشاء.. وهو في البيوع الفاسدة.. وفي الغش وفي السرقة.. وفي شرب الخمور.. وفي ظهور الكاسيات العاريات المائلات المميلات وفي التهاون في العبادات في الجمعة والجماعات.. وفي التعامل بالربا والعينة.. وفي الشح وفي السرف والترف.. وفي أشياء أخرى ربما لا تحضرني الساعة. هذا كله من باب الفساد والإفساد في وسط الرعية والواجب على ولي الأمر أن يأخذ الناس فيه بالشدة والقوة والعزم والحزم. أما فساد الراعي.. فهو شيء آخر.. شيء غير هذا.. لا يدانيه.. ولا يقاربه.. ولا يشبهه. ليس في إمكاننا أن نقول عن أنواع هذه المفاسد التي نسبناها إلى الرعية إن الأولى بالرعية ألا تفعلها.. أو أنها في حق الرعية خلاف الأولى.. لأن منها منهيات ومحرمات.. ومعاصٍ.. وهو ليس اختلافًا في الدرجة.. ولكننا إذا جئنا إلى فساد الراعي جاز لنا أن نقول مطمئنين إن فساد الراعي هو أن يأتي خلاف الأولى.. وذلك لأن الأولى في حق الراعي هو الطاعات.. ليس في أدنى مراتبها بل في أعلاها.. أي إن الأولى به الكمالات. من هنا جاءت الحاجة عند اختيار الحاكم وتنصيبه إلى أهل الحل والعقد أو في تعبير آخر أهل الاختيار وفي تعبير معاصر الكلية الانتخابية وهي محاولة معاصرة لتقليل سوءات النظام الديمقراطي الضارب الجذور في العلمانية فإذا كان الأولى بالحاكم وولاة الأمر إتيان الكمالات والبعد كل البعد عن خوارم المروءات واتقاء الشبهات وكبح جماح الشهوات والتمردات فإن النظر إلى فساد الراعي يجب أن يكون بميزان مخالف لميزان النظر إلى فساد الرعية. وأقول من أجل الإمتاع والمؤانسة ولإنعاش خلايا الاستيعاب هناك في الحياة العامة أنواع مختلفة من الموازين منها ميزان القبان وهو لوزن الأشياء الثقيلة بالقنطار وهناك ميزان البقال وهو لوزن الأشياء بالكيلو والرطل وهناك الميزان الكيماوي الذي يستخدم في المعامل وهو لوزن المساحيق والأدوية والمواد الكيماوية بالجرام وهناك ميزان آخر أكثر دقة من هذا اسمه ميزان متلر Mettler يزن الجرام مقسوماً على ثمانية خانات عشرية. وفات عليّ في المقدمة أن اذكر الترناطة والتي تُستخدم كثيراً في الموانئ والبواخر لتزن بالطن ولو أردنا أن نشبه ونضرب الأمثال لنقرب المعنى فلو أردنا أن نزن أعمال المشركين والملاحدة لما احتجنا إلى أكثر من التوناتا.. وإذا أردنا أن نزن أعمال المسلمين العصاة والمجاهرين بالمعاصي لكفانا ميزان القبان. أما عامة المسلمين من أهل الطاعات الطاهرة والمخالفات المستورة فربما كفانا ميزان البقال.. فإذا جئنا إلى صفوة الأمة والنخبة وأهل القيادة والريادة احتجنا إلى الميزان الكيمائي وهو أكثر دقة وأكثر ضبطاً أما إذا مثلنا لوزن أعمال الأنبياء والرسل الكرام فأنت تحتاج إلى ميزان هو الأعظم في الدقة مثل ميزان متلر وربما كان هناك ما هو أعظم منه دقة الآن!! نقول هذا ونحن نعلم أنه لا يساوي قطرة من بحر علم الله فنستغفره ونتوب إليه .. فما قصدنا إلا التقريب.. ومما يمكن أن يستزاد به في التوضيح القول المشهور «حسنات الأبرار سيئات المقربين» إن الأعمال التي يداوم عليها أهل البر وتعتبر من حسناتهم إذا اكتفى بها أهل القربى ولم يتعدوها اعتُبر ذلك من سيئاتهم. ونحن نقول لأهل الحكم اليوم وهم بين ظهرانينا ومن أهلنا ومن أقربائنا.. إذا كان فيكم من يريد أن نزن له أعماله بميزان القبان.. لا بل بميزان البقال فنصيحتي له أن يغادر موقعه ليكون واحداً من الرعية ولا يتعبنا بوزن سيئاته بغير ميزانها.. كلما تحدثت أو كتبت أو ذكرت هذا الباب من فقه الولايات تبادر إلى ذهني حادثة لعمر مع ابنه عبدالله وكلاهما إمام في الورع وعمر كان أمير المؤمين وعبدالله كان ابن أمير المؤمنين.. لقي عمر عبدالله وهو يحمل شيئاً وهو قادم من السوق فقال له: ماذا تحمل؟ قال عبدالله اشتهيت شيئاً من اللحم فاشتريته.. قال الخليفة لابنه: أكلما اشتيهت اشتريت؟ اذهب به إلى السوق واجعل ثمنه في بيت المال!! الذي قصده عمر هو أن هذه درجة من الوفرة لا يجب أن يعرف بها ابن أمير المؤمنين .. رغم أنه لم يلي لأبيه شيئاً.. وقد احتدم الصراع في الآونة الأخيرة حول مخصصات بعض الدستوريين والتي تجاوزت عشرات الملايين «أي الآلاف بالجديد» والوثائق المتوفرة تشهد لأحد جانبي الصراع. وعلى ذكر سيرة المخصصات ما زلت أقف مأخوذاً ومذهولاً أمام ما نسب إلى عتاب بن أسيد بن ابي العيص بن أمية بن عبد شمس وهو من طلقاء قريش عندما ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وهو في طريقه إلى غزوة الطائف «وكان عامة من بمكة من بني أمية» وكانت مخصصات عتاب أربعة دراهم في اليوم ونقل عنه أنه قال «رزقني رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة دراهم في اليوم فلا أشبع الله بطنًا لا تشبعه أربعة دراهم». ويبدو أن دعوة عتاب قد استجيب لها في أهل الحكم في السودان فلم تعد تشبعهم الملايين ولا المليارات ونعوذ بالله من الخذلان واتباع الشيطان ومبارزة الواحد الديان. إن الوثائق التي بين أيدينا تتكلم عن المخصصات.. ولكنها لا تتكلم عن العمارات ولا المجمعات ولا الاستثمارات ولا التجارات.. والمثل العامي يقول إن الفساد مثل اللحم تماماً لابد أن يتغير وتنتشر له رائحة .. وفساد الراعي أنتن رائحة من فساد اللحم. إن النظرية الإسلامية التي تقرأ وتفهم من كتاب الله جل وعلا ومن سنة الحبيب المصطفى ومن سيرة الأنقياء البررة من السلف والخلف تقول إن ولاية الشأن العام لا تصلح ولا يجب أن تعطى لمن همه أن يثرى ويغتني ويستمتع بطيبات الحياة الدنيا من المأكل والمشرب والملبس والمركب والمنكح. في هذا الجو الذي نعيشه اليوم غابت غيابًا تاماً عن جدول الراعي ومهامه الأساسية نظرية محاسبة العمال من ولاة ووزراء ومتنفذين. لقد كان عمر يحسب عماله وولاته يحاسبهم على ثرائهم وعلى غناهم.. كان عمر يحاسبهم على اشتغالهم بالدنيا وعلى جمعهم الأموال من الحلال.. لم يكن يحاسبهم على السرقة ولا على الاختلاس. إن الشبهة في مال الرعية لا تكون إلا في طريقة جمعه ولكن الشبهة في مال الراعي لا تكون إلا في المال نفسه لا في طريقة جمعه.. فأبوهريرة والي عمر على البحرين جمع ماله من حلال.. من اعطيات ومن أسهم في الجهاد ومع ذلك حاسبه عمر.. وقاسمه ماله الذي كسبه حلالاً طيباً.. قالوا حتى أخذ نعلاً وترك نعلاً يعني فيفتي فيفتي وعمر يعلم تمام العلم أن ابا هريرة ليس سارقاً ولا لصاً فعاد إليه يطلبه للولاية فتلاسنا لأن ابا هريرة رفض الولاية وقال لعمر أخشى أن أقول بغير حلم وأن أحكم بغير علم وأخاف أن يشتم عرضي ويضرب ظهري ويؤخذ مالي. وكان عمر يضرب عماله وولاته ووزراءه بالدرة.. وكانوا يحتملون ذلك منه لنقائه ونقائهم. أن تعمل فقد عمل من هو خير منك يوسف بن يعقوب بن اسحق بن إبراهيم . قال ابوهريرة ذاك نبي ابن نبي ابني نبي ابن نبي.. لقد كانت بداية الإنقاذ خيراً من نهايتها..!! والعبرة في الأشياء بالخواتيم وفي الدعاء «واختم لنا بالصالحات أعمالنا» و«اجعل خير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم لقاك». كان الرعيل الأول من الإنقاذيين إذا عادوا من سفرية إلى الخارج سارعوا بتوريد باقي النثرية إلى خزينة المؤسسة أو الوزارة.. أما اليوم فهم يرفضون مجرد الإشارة إلى مخصصاتهم. إن الكثيرين من أهل الحكم في الإنقاذ إذا قرأوا مقالتي هذه كرهوها.. وأقول لكل من كره شيئاً منها إنك لست «في مقعد صدق» إنك في مقعد زور وكذب فالنجاة في المغادرة.. والنجاة في المصادرة.. والنجاة في المبادرة وستقفون قريباً أمام رب يزن بغير ميزانكم هذا الشائل الخائس .. عندها سيكون غناكم في الدنيا هو فقدكم أمامه وسيكون فقدكم في الدنيا هو غناكم أمامه فاختاروا لأنفسكم من فقدها وغناها ما تشاءون.. ولا يلومن أحدكم إلا مناخ راحلته.