وتتكشّف الحقيقة المُرة التي ظللنا نجهر بها من زمان والناس نيام.. حقيقة أن الجنوب والشمال بلدان مختلفان لا يجمع بينهما إلا ما يجمع بين القط والفار في كرتنا الأرضية هذه المليئة بالمتناقضات وما ظللنا نردِّده بالليل والنهار أن الحكومة تلعب بالنار حين تتعامل مع الوجود الجنوبي في الشمال كما يتعامل الأطفال مع قنابل القرانيت باعتبارها لعباً آمنة للّهو والمرح.. إنه ذات التعامل الساذج الذي جعلها توقِّع نيفاشا وتُحكم بها الحبل حول عنقها مما نرى آثاره على حال السودان اليوم وهو يتلوّى كالمصروع في محاولاته الفكاك من قيد نيفاشا وأخطائها الكبرى. اقرأوا هذه الأخبار.. فقد تم اعتقال «41» جنوبياً كانوا ضالعين في أحداث النيل الأزرق من بين «138» معتقلاً بحسب ما ذكر اللواء ركن يحيى محمد خير الحاكم المكلَّف لولاية النيل الأزرق والذي اتهم قياديًا بالمؤتمر الوطني بالنيل الأزرق يُدعى عبدالغني دقيس بالخيانة كما أن حكومة الجنوب قد قامت بإرسال أربعة آلاف من مقاتلي الجيش الشعبي من بين الموجودين في مناطق المابان وقفَّة لدعم قوات عقار كما أن طائرات تابعة لمنظمات دولية تقوم بنقل الجرحى من قيادات الجيش الشعبي التابعين لعقار إلى جوبا من مطار دورو بالبونج والذي يُستخدم في نقل المعدات العسكرية من دولة جنوب السودان إلى ولاية النيل الأزرق لدعم عقار!! هذا قليلٌ من كثير كشفت عنه الأحداث الأخيرة بينما بعض المسؤولين الحكوميين يصرِّحون بأن «الحكومة تعبت من الحرب» حتى يزيدوا الطين بِلة ويُحدثوا الهزيمة النفسية في صفوف القوات المسلحة!! اسمعوا للعميد محمد عجيب رئيس تحرير صحيفة القوات المسلحة يحدِّثكم عن فقع المرارة الذي تخصَّص فيه سياسيو المؤتمر الوطني وهم لا يكتفون بالصمت وإنما يخوضون المعركة لمصلحة عقار بانبطاحهم المهين وحربهم النفسية ضد القوات المسلحة السودانية فقد كتب العميد محمد عجيب مايلي: «الجمعة قبل الماضية كان قيادي بالحزب الحاكم معلم كبير من معلمي نيفاشا كان يصرح لبرنامج مؤتمر إذاعي أن الخيار العسكري ليس خياراً أمثل لحسم تفلتات ما يُسمى بالحركة الشعبية قطاع الشمال.. ويضيف أن هؤلاء مهما اختلفنا معهم فهم سودانيون من أبناء هذا الوطن وهذا ما يجعل الحل العسكري هو الخيار الأخير.. القيادي لا يرى أن الحل العسكري هو الحل المناسب حتى بعد الطعنة الثانية عشرة من الحركة...»!! أمثال هذا القيادي الذي تحدَّث عنه محمد عجيب لايستفزه تهديد عقار بأنه سينقل المعركة إلى الخرطوم بل إلى القصر الجمهوري ولا يحرِّكه ما يحرِّك الجبال الراسيات فهو رجل «عاقل ظريف» لا يريد الحرب أما عقار فإنه يهدِّد ويتوعَّد ويتحدث عن أن «الكتوف اتلاحقت فكما أن للبشير جيشاً فأنا لي جيش وكما أن البيشر رئيس حزب فأنا رئيس حزب وكما أن البشير رئيس فأنا رئيس» «للنيل الأزرق طبعاً» وما في حد أحسن من حد!! بل إن هذا المغرور يطلب من البشير أن يُرسل علي عثمان ونافع ليتحاورا مع من في مستواهما من قيادات عقار بحيث يجلس البشير وعقار في نهاية الأمر ليوقِّعا على ما يتوصل إليه علي عثمان ونافع ونظيراهما من قيادات عقار!! كل هذا لا يحرِّك في هذا القيادي في الحزب الحاكم وغيره كثيرين من «المزروعين» ساكناً فهؤلاء هم البلاء الذي فتك ولا يزال ببلادنا!! قارنوا بين لغة الحرب التي يتوعدنا بها عقار ولغة الاستسلام التي يخدِّرنا بها هؤلاء المذعورون الباحثون عن السلام بأي ثمن حتى لو كان الهزيمة النكراء.. قارنوا بين هؤلاء المنبطحين وقول الله تعالى: «وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ» إنها لغة أولاد نيفاشا الذين أوردونا موارد الهلاك ولا يزالون يجثمون على أنفاسنا بعد أن أحالوا انتصاراتنا العسكرية في ميدان القتال إلى هزائم ماحقة. هؤلاء ينبطحون بالرغم من أن الجيش الشعبي يقاتل داخل أرضنا!! ألم تروا ما يكتبه بعض صحافيينا في الصحافة الحكومية ممن اتّخذوا المهنية إلهًا يُعبد وقدَّموها على الله تعالى وعلى الوطن.. المهنية التي تأمرهم بالحياد بين القوات المسلحة السودانية والجيش الشعبي الأجنبي وبين دولة السودان الشمالي المحتلة أرضها ودولة الجنوب التي تشنُّ الحرب علينا من داخل أرضنا؟! إن القرآن الكريم ذمَّ المحايدين في معركة الحق والباطل والخير والشر وقال تعالى في المحايدين من المنافقين «مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ» إذ إن الإنسان لم يُخلق ليتَّخذ موقفًا محايدًا وإنما لينصر الحق على الباطل والخير على الشر ابتغاء الجنة وهروباً من النار وأعجب أن تتخذ صحافة الجنوب مواقف مساندة لبلدهم الوليد ولجيشهم الشعبي ويتخذ مؤيدوهم من اليساريين والعلمانيين في الشمال مواقف داعمة للحركة والجيش الشعبي بينما «يتلولو» المذعورون المرتجفون من صحافيينا!! حق لعبد الرحمن أبو مدين رئيس المؤتمر الوطني بولاية النيل الأزرق أن يغضب ويتهم الحكومة بالتراخي في التعامل مع عقار واستعداداته المبكرة للحرب وهل فعلنا غير ما فعل أبومدين؟! اسمعوا له وهو يسخر من هؤلاء المزروعين في أحشاء المؤتمر الوطني من أصحاب الولاء المزدوج فقد ألمح إلى «وجود متواطئين من الوطني مع عقار» وقال «يقولون الله أكبر بالنهار و ويي بالليل»!! مشكلة ازدواجية الولاء أو قل هشاشة الولاء هذه عانى منها المؤتمر الوطني كما عانت كل القوى السياسية لكن حظ الحزب الحاكم من هذا الداء كان أكبر من غيره وقد كتبنا عن ذلك كثيراً ولولا ضعف الولاء لما فاز عقار بولاية النيل الأزرق بالتزوير بعد أن سحب أحد المتمردين على المؤتمر الوطني الكثير من الأصوات من مرشح حزبه بعد أن أصرّ على الترشح وهو يعلم أنه لن يفوز ولن ننسى قصة د. رياك قاي الذي نُصِّب نائبًا لرئيس المؤتمر الوطني تنصيباً سياسياً لايقوم على الولاء العقدي والفكري الأمر الذي جعل الرجل يرجع إلى أصله وينضم إلى الحركة الشعبية بل ويضم بقرار مضحك كل عضوية المؤتمر الوطني وممتلكاته إلى الحركة الشعبية ويعلن ذلك من تلفزيون جنوب السودان في جوبا!! وبالرغم من اتضاح صحة ما كنتُ أقوله حول ضرورة الاهتمام بالمرجعية الفكرية والثقافية وجعلها الركيزة التي يقوم عليها الولاء الحزبي فإن المؤتمر الوطني لم يُخضع ما حدث من رياك قاي وأليسون مناني مقايا وغيرهما للدراسة بغرض الاتعاظ والمراجعة!! خذ مثلاً مريم الصادق المهدي.. بربكم هل لهذه المرأة علاقة بإرث جدها الإمام المهدي أو بنهج الصحوة الذي ابتدعه والدها على منهج الإسلام أم هي أقرب إلى عرمان منها إلى مرجعية والدها؟! لو كانت مريم أو أخواتها نساء عاديات لما كانت هناك مشكلة لكنهنّ بنات الصادق المهدي في حزب طائفي لا يحتل الناس فيه مواقعهم بالجدارة والمؤهِّلات الشخصية أو المرجعية الفكرية وإنما بالوراثة التي تأتي بالعلمانية على قمة الحزب الإسلامي فهل بالله عليكم من مصيبة أكبر من ذلك؟! إنه واقع مأزوم يقتضي ثورة على الأوضاع السياسية تُصلح من الشأن السياسي وما من سبيل إلى إصلاح سياسي حقيقي ما لم ينصلح حال أحزابنا السياسية التي ما طرقتُ إلا جانباً صغيراً من جوانب ضعفها ذلك أن الأحزاب السياسية هي التي تستوعب الولاء الوطني وتستقطب الشعب في أوعيتها للتعبير عن آرائه وتوجُّهاته ومرجعياته..