جاء في البيان الأول لحكومة الإنقاذ:«إن قواتكم المسلحة المنتشرة في طول البلاد وعرضها ظلت تقدِّم النفس والنفيس حماية للتراب السوداني وصوناً للعرض والكرامة وتترقب بكل أسى وحرقة التدهور المريع الذي تعيشه البلاد في شتى أوجه الحياة وقد كان من أبرز صوره فشل الأحزاب السياسية بقيادة الأمة لتحقيق أدنى تطلعاتها في الأرض والعيش الكريم والاستقرار السياسي حيث عبرت على البلاد عدة حكومات خلال فترة وجيز ة وما يكاد وزراء الحكومة يؤدون القسم حتى تهتز وتسقط من شدة ضعفها وهكذا تعرّضت البلاد لمسلسل من الهزات السياسية زلزل الاستقرار وضيّع هيبة الحكم والقانون والنظام. لقد عايشنا في الفترة السابقة ديمقراطية مزيفة ومؤسسات دستورية فاشلة.. وإرادة المواطنين قد تم تزييفها بشعارات برّاقة مضللة وبشراء الذمم والتهريج السياسي ومؤسسات الحكم الرسمية لم تكن إلا مسرحاً لإخراج قرارات السادة ومشهدًا للصراعات والفوضى الحزبية وحتى مجلس رأس الدولة لم يكن إلا مسخاً مشوهاً، أما رئيس الوزراء فقد أضاع وقت البلاد وبدد طاقاتها في كثرة الكلام والتردد في السياسات والتغلب في المواقف حتى فقد مصداقيته. لقد تدهور الوضع الاقتصادي بصورة مزرية وفشلت كل السياسات الرعناء في إيقاف هذا التدهور ناهيك عن تحقيق أي قدر من التنمية فإزدادت حدة التضخم وارتفعت الأسعار بصورة لم يسبق لها مثيل واستحال على المواطنين الحصول على ضرورياتهم إما لانعدامها أو لارتفاع أسعارها مما جعل كثيرًا من أبناء الوطن يعيشون على حافة المجاعة، وقد أدى هذا التدهور الاقتصادي إلى خراب المؤسسات العامة وانهيار الخدمات الصحية والتعليمية وتعطل الإنتاج وبعد أن كنّا نطمح أن تكون بلادنا سلة غذاء العالم أصبحنا أمة متسولة تستجدي غذاءها وضرورياتها من خارج الحدود وانشغل المسؤولون بجمع المال الحرام حتى عمَّ الفساد كل مرافق الدولة، وكل هذا مع استشراء الفساد والتهريب والسوق الأسود مما جعل الطبقات الاجتماعية من الطفيليين تزداد ثراءً يوماً بعد يوم بسبب فساد المسؤولين وتهاونهم في ضبط الحياة والنظام. أيُّها المواطنون الشرفاء: قد امتدت يد الحزبية والفساد السياسي إلى الشرفاء فشردتهم تحت مظلة الصالح العام مما أدى إلى انهيار الخدمة المدنية وقد أصبح الولاء الحزبي والمحسوبية والفساد سبباً في تقدم الفاشلين في قيادة الخدمة المدنية وأفسدوا العمل الإداري وضاعت على أيديهم هيبة الحكم وسلطات الدولة ومصالح القطاع العام. مواطني الكرام: إن إهمال الحكومات المتعاقبة على الأقاليم أدى إلى عزلها عن العاصمة القومية وعن بعضها في انهيار المواصلات وغياب السياسات القومية وانفراط عقد الأمن حتى افتقد المواطنون ما يحميهم ولجأوا إلى تكوين المليشيات، وكذلك انعدمت المواد التموينية في الأقاليم إلا في السوق الأسود وبأسعار خرافية. أيُّها المواطنون: لقد كان السودان دائماً محل احترام وتأييد كل الشعوب والدول الصديقة لكن اليوم أصبح في عزلة تامة، والعلاقات مع الدول العربية أضحت مجالاً للصراع الحزبي وكادت البلاد تفقد كل أصدقائها على الساحة الإفريقية وقد فرطت الحكومات في بلاد الجوار الإفريقي حتى تضررت العلاقات مع أغلبها وتركت الجو لحركة التمرد تتحرك فيه بحرية مكنتها من إيجاد وضع متميز أتاح لها عمقاً إستراتيجياً لضرب الأمن والاستقرار في البلاد حتى إنها أصبحت تتطلع إلى احتلال وضع السودان في المنظمات الإقليمية والعالمية، وهكذا انتهت علاقات السودان من العزلة مع العرب والتوتر مع إفريقيا إزاء الدولة الأخرى. قراءة بين سطور البيان الذي يقرأ البيان الأول للإنقاذ وما حواه من نقد وهجوم ووصف لحالة التردي الاقتصادي، وتكالب المسؤولين على جمع المال الحرام والفساد بكل أنواعه والمحسوبية، وتصوير المشهد القاتم والمحزن للوضع السياسي القائم قبل 30 يونيو، الذي يقرأه بعد مرور «23» عاماً من الحكم الإنقاذي لا يخالجه شك مطلقاً في أن البيان يتحدث عن نظام الحكم القائم الآن بكل سوءاته وإسقاطاته على الأصعدة المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والدبلوماسية والسلوكية والأخلاقية، وليس حكومة الديمقراطية الثالثة التي أطاحها إنقلاب 30 يونيو، مما يعني أنها جاءت لتكحلها فأعمتها، ونهت عن خلق ذميم فأتت مثله أضعافاً مضاعفة، وهو أمر يضع التجربة برمتها في محك ضيق وامتحان عسير، حيث بدا الأمر أن الإنقاذ جاءت لردم الهوة الماثلة آنذاك فوسعتها إلى الآخر، ويمكن القول إنه من أراد أن يحاسب الإنقاذ اليوم بعد مرور «23» عاماً من الإخفاقات والتجاوزات فقد سهلت له الطريق ببيانها الأول. وبإلغاء نظرة فاحصة تأخذ في الاعتبار الجوانب التي انتقدها بيان الإنقاذ واعتبرها جريمة نكراء ارتكبتها حكومة الصادق المهدي وخطيئة لا تغتفر ومن ثم بررت بها الجبهة الإسلامية انقلابها العسكري، وبقراءة بين سطور البيان الأول للإنقاذ يمكن للمراقب السياسي أن يبدي جملة من الملاحظات الموضوعية حول بعض الجوانب بغرض المقارنة على ضوء البيان والحكم على التجربة وذلك على النحو التالي: أولاً: الجانب السلوكي والأخلاقي جاءت الحركة الإسلامية للسلطة عبر انقلابها العسكري بمثالية منقطعة النظير تماثل بدرجة كبيرة تلك التي تتراءى اليوم على الرئيس المصري الجديد«الإخواني» محمد مرسي الذي يرفض حتى الحراسة.. لقد كان أعضاء الثورة من العسكريين و«إخوانهم» المدنيين «داخلين» في جلابيب صحابة، وكان الواحد منهم يتوقف على طول الطريق ليحمل معه المواطنين في طريق عودته إلى منزله وذهابه إلى مكتبه، وقد أحيوا تماماً شعيرة فضل الظهر، وسمعنا أنهم في باديء الأمر كانوا يجمعون «شيرنق» لصحن الفول أثناء اجتماعاتهم الرسمية، هذا قطعاً ليس مطلوباً منهم وما لأحد أن ينتقدهم إن لم يفعلوه، ولكنهم وسعوا لأنفسهم الهوة، وما دروا أن شهوة السلطة وسكرتها ومفاتنها في قادمات الأيام ستفعل بهم ما لم يكونوا يحتسبون، وأظن أن الناس سمعوا كثيرًا عن خطاب الشهيد عثمان لشقيقه الرئيس البشير والخطاب ممهور بتوقيع فاعل خير وقد جاء فيه: « ماذا تقول لربك يوم القيامة، وفي بيتك جوال من السكر في وقت لم تتوفر أوقية واحدة في أي بيت من بيوت رعيتك؟» وكان في تلك الأيام انعدم السكر تماماً إلا من بيوت المغتربين الذين يسمح لهم وحدهم باستجلابه لأهاليهم، وكان وقتها أرسل ابن أخت الحاجة هدية المغترب جوالاً لخالته أم الرئيس وبعد قراءة الخطاب المكتوب عليه من الخارج سري للغاية، انزعج البشير وذهب إلى الحاجة صفية يستقصي عن حقيقة أمر السكر قمة الشفافية ... فقط أردنا أن نشير على سبيل المثال إلى الوضع السابق وبعض الحالات المثالية ونجري بعض المقارنة مع حالة الانتفاخ الحالية التي أخذت بتلابيب الأغلبية والتكالب على المال العام والاستثمارات والشركات بالداخل والخارج وشبهات الثراء الحرام والفساد الذي حام حتى حول رجال الصف الأول والثاني كما قال أمير الحركة الإسلامية بولاية الخرطوم السابق الدكتور الجميعابي، ويكفي في هذا الصدد اعترافات كبار رجال الحركة الإسلامية وقياداتها الذين أقروا بأن الإسلاميين فتنتهم السلطة، فماذا عساي أن أقول وقد شهد شاهد من أهلها..الوضع القائم، لاشك أنه غني عن التعريف ولايحتاج منا حتى إلى إشارات، فقد أنهار المثال تماماً، وتوارت القيم والمباديء والمنهج التربوي خلف ضباب السلطة والجاه، وسقطت الشعارات الواحد تلو الآخر. ثانياً الجانب الدبلوماسي: بذات الحماس السياسي والمثالية التي أدارت بها الإنقاذ الشأن السياسي في أيام الانقلاب الأولى، كان نصيب الإدارة الدبلوماسية قسطاً كبيراً من ذات الحماس الزائد إلى جانب الفوضى وعدم الانضباط في الخطاب السياسي الدبلوماسي الإعلامي وغياب التنسيق بين جزيئاته الثلاثة، وليس غريباً أن يصرِّح عضو باتحاد الرعاة أو المزارعين أو الطلاب في الشؤون الخارجية والعلاقات الدبلوماسية مع الدول وكم سمعنا من هؤلاء من يقول في ساعة فورة سياسية : « قريباً إن شاء الله سيصدح الآذان في أمريكا» تماشياً مع شعارات «أمريكا روسيا قد دنا عذابها»، وإذا سألت ممثلي اتحادات الرعاة والمزارعين عن شؤون الرعي والزراعة يقفزون إلى سب الأمريكان وتهديدهم في محاولة للتزلُّف للحكومة التي استعدت بشعاراتها الغرب الذي صدق تلك «النفخات».. أما الإعلام الرسمي فقد كان يعمل ليل نهار على تقويض أي بناء للعلاقات الدبلوماسية من خلال الحديث السياسي عبر الإذاعة وغيره ما هي إلا أشهر قليلة حتى دخلت البلاد في عزلة دولية شاملة ليس من الغرب «الكافر» فقط بل من العرب والمسلمين والأفارقة بفعل تلك السياسة الخارجية ذات الضبابية العالية والحماس الزائدالتي فتحت أبواب السودان لمعارضات الدول العربية والإسلامية، وألغت تأشيرة الدخول للبلاد، مما فتح الطريق أمام الإرهابيين الدوليين مثل كارلوس والمتطرفين مثل الخليفي ونحوهما، الأمر الذي دفع الغرب إلى إحكام الحصار الذي «نولول» منه حتى الآن. ويرى أكثر من مراقب أن سياسة الحدود المفتوحة وإلغاء تأشيرة الدخول في العام 92 كانت من أبرز الأسباب التي كسرت عظم الإنقاذ وأورثتها الخنوع لما لاقته من ضغوط غربية بسبب تلك السياسات الهوجاء التي بررت للغرب المتسلِّط التدخل في الشأن السوداني، وهو التدخل الذي تغلغل بذات المدخل ولا يزال يتسرّب ظاهرًا ومستترًا. الجانب الإقتصادي: إن كانت الإنقاذ نجحت في استخراج البترول فقد فشلت في الآتي: 1/ ضبط أموال البترول التي تدفقت في أيدي المسؤولين مع غياب الرقابة عليها مما أدى إلى الفساد، وهذا ما أكده أول وزير مالية للإنقاذ الدكتور سيد علي زكي في حواره مع صحيفة الإهرام اليوم. 2/ العجز الكامل عن ضبط السوق الموازي والمضاربات الدولارية، ولا يزال الناس يذكرون حديث بعضهم لتبرير الانقلاب «نحنا لو ما جينا كان الدولارحيلحق 12جنيه» وحماسهم لحسم تجار العملة وإعدام بعضهم، ثم التراخي عن ذلك بصورة مثيرة للشكوك، وسط همس متصاعد بأن هذا النشاط أصبح حكرًا لمنسوبين للنظام وتمويل أجهزة الحزب. 3/ الفشل في الإدارة الاقتصادية: يجمع كثير من الخبراء أن الإنقاذ فشلت في إدارة الاقتصاد القومي بدرجة كبيرة ويُرجعون أسباب التخلُّف الاقتصادي وتراجع مؤشرات الإنتاج والنمو الاقتصادي إلى سوء التخطيط الاقتصادي وفشل الإدارة الاقتصاديةالتي أهملت القطاعات الإنتاجية مثل الزراعة والثروة الحيوانية وركزت على النفط، ومن أبرز القائلين بذلك وكيل أول وزارة المالية السابق والمستشار الاقتصادي لدول أوربا الدكتور محمد نوري. 4/ على الصعيد الاقتصادي أيضاً عدم وضوح الخارطة الاستثمارية والرؤية، وعدم مراقبة الفضاء الاستثماري وحمايته من اللصوص والسماسرة والوسطاء الانتهازيين كان من أكبر الضربات القاضية لهذا القطاع الذي أصبح طاردًا وذا سمعة سيئة في أوساط المستثمريين، ولعل ما أشار إليه نواب البرلمان من فساد مسؤولين، وما أشار إليه ممثل المستثمر العربي جمعة الجمعة يكفي للاستدلال على الفوضى التي ضربت هذا القطاع الحيوي. محاكمة البيان: وخلاصة القول وبالنظرإلى بيان الإنقاذ الأول يلاحظ المرء أنها بدت وكأنها مارست النقد الذاتي بقسوة وفق ما هو واقع الآن على الأرض.