إن هذا الذي نكتبه هنا اليوم ونقدِّمه إلى الأخ الرئيس ليس ضرباً من ضروب الفلسفة.. ولا صنفاً من صنوف الجدال الذي مقته القرآن.. ولا هو مما يمكن أن نتغافل عنه على زعم أنه من فروض الكفايات.. وحتى لو فرضنا جدلاً أنه منها.. فنحن لا نرى أحداً قد قام به حتى نزعم أنه سقط عن الباقين.. فإذا كان تقديم النصيحة لازمًا وواجباً يا سيدي الرئيس.. فإن قبولها ألزم وأوجب.. فلو كان الفساد في كتمها عظيماً.. فإن الفساد في رفضها أعظم.. إن مؤسسة الرئاسة من بين كل مؤسسات الحكم هي الأقرب شبهًا بالإسلام من غيرها من المؤسسات.. هي الأقرب شبهًا به وليست هي إياه بسبب ما دخلها من جرثومة ما يسمى بالديمقراطية. ولأنها هي الأقرب.. فإن مسؤوليتها في الإصلاح هي الأكبر.. لقد سبقت لك في أعناق الناس بيعة.. والبيعة هي أساس الحكم في الإسلام.. والبيعة لا تكون إلا لرجل واحد والبيعة يا سيدي الرئيس رخصة يفعل بها صاحبها ما يشاء.. إن البيعة سيدي الرئيس عهد وميثاق بين شخصين طبيعيين.. فهي قيد في عنق من أعطاها وهي غل وقيد في عنق ويد ورجل من قبلها وارتضاها، وأول لازمات البيعة يا سيدي الرئيس.. حسن الخطاب ومنها قول الصديق.. وُلِّيتُ عليكم ولستُ بخيركم.. ومنها.. أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم.. فإن عصيتُهُ فلا طاعةَ لي عليكم. ومنها.. لا خيرَ فيكم إن لم تقولوها.. ولا خيرَ فينا إن لم نسمعها.. ومنها أن الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز.. لم يقبل ولاية العهد حتى بايعه الناس بيعة مستأنفة.. لذلك فالبيعة يا سيدي الرئيس تحتِّم عليك أن تنأى بنفسك من عنتريات نافع.. ومن هنّات علي كرتي ومن بوائق ربيع عبد العاطي.. إن كلماتهم هذه توفر وقوداً للنار المشتعلة أصلاً وتزيدها إحراقاً واشتعالاً. ودعني يا سيدي الرئيس ابسط الحقيقة أمامك في كلمات فما أقدمت على كتابة هذه الورقات.. مداهنة.. ولا تدليساً.. ولا طمعاً إن الإنقاذ اليوم ليست هي الإنقاذ التي جاءت يوم «30» يونيو «89» إن الإنقاذ اليوم تحمل على كاهلها ميراث ثلاثة وعشرين عامًا من الأخطاء والزلاّت والهنّات.. صحيح سيدي الرئيس.. قدَّمت الإنقاذ أشياء في مجال التنمية والطرق.. والتحديث.. ولكن الإنقاذ لم تقدِّم شيئاً يُذكر في مجال التشريع وفي مجال الإصلاح الاقتصادي.. والإصلاح الاجتماعي.. ولا في مجال الرجال.. أما في مجال التشريع فيكفي أن نشير إلى دستور «1998» ودستور «2005م» الانتقالي الذي لا يزال سارياً حتى كتابة هذه السطور.. وإذا اختلف اثنان في إسلامية أو علمانية هاتين الوثيقتين فقد لجّت القضية بينهما.. وبعُدت الشقّة.. والإنقاذ ما زالت تمني الناس بالشريعة.. وبالدستور الإسلامي.. أما في مجال الإصلاح الاقتصادي.. فقد تضاعفت الأسعار عدة مرات.. وفي أقل من عام من اليوم بلغت زيادات بعض السلع كالسكر واللبن والخضروات أكثر من «100%» بل «150%» مع أن دخل الفرد لم يرتفع ولا بمقدار «20%» منذ أكثر من خمس سنوات. إضافةً إلى كل ذلك فإن الذي تفعله الجبايات والمكوس والضرائب لا يقل من فداحة ما تفعله الأسعار. ولا أحسبني متزيداً ولا مبالغاً إذا قلت إن أكثر من «90%» من هذه الأموال التي ذكرت تؤخذ وتُجبى على غير الأصل الشرعي. فإذا أضفنا إلى الخلل الاقتصادي عوامل أخرى مثل مخصصات الدستوريين.. والفساد المالي.. والتجنيب تيقنّا سيدي الرئيس.. ولا بد أن تكون أنت أول المتيقنين.. أن المرض قد استفحل ويحتاج إلى مبضع جراح! ثم نأتي من بعد إلى المجال الاجتماعي.. والخلل فيه أكبر وأعظم وأخطر من الخلل الاقتصادي لولا أن الخلل الاقتصادي يتعلق بالجانب الحيوي المعيشي..إن السودان الذي كنا نعرفه يا سيدي الرئيس لم يبقَ منه إلا القليل.. سودان العزة.. والنخوة.. والتراحم سودان الصدق.. والكرم.. والرجولة سودان العفائف.. والكرائم.. والفضليات أين ذهب؟! ماذا دهاه؟ لقد انشغل عنه أهل الحكم بأنفسهم.. وأطلقوا فيه يد الإعلام .. وهو إعلام بلا ضوابط وبلا شرائع.. وبلا قيم وأطلقوا فيه يد المنظمات الأجنبية.. وهي منظمات إجرامية تمارس الابتزاز في أشنع أشكاله.. بالدولار.. والجنس.. وبالمتعة الحسية في أتفه صورها.. أطلقوا كل هذه الأيدي.. ولكنهم غلّوا يد الدعوة.. وأيدي الدعاة.. إن هؤلاء الرجال يا سيدي الرئيس.. إن بعلمك أو بغير علمك يُنفقون إنفاق من لا يخشى الفقر على مجالات أقل ما يقال فيها إنها مشكوك في حلها وحرمتها.. وهي إلى الحرمة أقرب.. ويفترون على أهل الحاجات والمرضى والفقراء والمساكين من طلاب العلم وطلاب العفاف.. ونأتي يا سيدي الرئيس بعد هذا العرض المختصر إلى موطن الداء.. وموطن الداء هو الرجال.. وبعيداً عن التجرع وعن اللمز والغمز فاسمح لي يا سيدي الرئيس أن أقول وبغض النظر عن كفاءة هؤلاء أو كفايتهم.. فإن حواء السودان قد أنجبت غيرهم ولا يخالطني ريب في أنها لا بد أن تكون قد أنجبت خيراً منهم.. إن بقاء الوزير أو الوالي أو المساعد في منصبه لأكثر من خمس سنوات أو قل عشر سنوات مفسدة له.. ومفسدة لمن حوله.. ومفسدة للرعية.. وهو مفسدة للحكم.. وإذا لم يقدم الموظف أياً كان أفضل ما عنده في خمس سنوات.. فليس عنده ما يقدمه.. إن هذا الذي نقوله يصح في رجال مثل أبي هريرة.. وسعد بن أبي وقاص.. وسعيد بن عامر.. وعياض بن غنم وعمرو بن العاص لما كانوا ولاة لعمر بن الخطاب. أما اليوم حيث يدور اللغط.. وتثور الشائعات.. ويعتقل من رجال الحكم من هم في قامة هؤلاء.. وتثبت جرائم الفساد فإن الحاجة إلى اختفاء هذه الوجوه أكبر بكثير مما يتصوره الناس.. إن إطفاء هذا الحريق يا سيدي الرئيس في متناول يدك.. فلك أن تصب عليه ماءً.. أو تترك غيرك يصب عليه زيتاً.. أولاً.. فلتختفِ معظم هذه الوجوه أو كلها.. وأمتنع عن ذكر الأسماء لأن المعرفة تغني.. ثانياً.. قلِّص عدد الوظائف الدستورية إلى أقل عدد ممكن من «15» «20» من وزير إلى مساعد إلى مستشار إلى وزير دولة. ثالثاً.. حدد الحد الأعلى للمخصصات بحيث لا يزيد في جملته على خمسة أو سبعة آلاف جنيه.. واجعل المنصب مغرمًا لا مغنمًا. رابعاً.. اقطع دابر العنتريات وأنأَ بنفسك عنها فإن الناس يستحقون من الإنقاذ أفضل من هذه العنتريات.. وليس صحيحاً أن المعارضة هي التي تحرِّكهم.. بل هي تصطاد في ماء الأزمة العكر وأذكِّرك بيوم إعلان المحكمة الجنائية.. هل أخرجتهم المعارضة؟! خامساً.. اقطع دابر هذه الجبايات والمكوس.. والفساد.. وحاكم المختسلين.. واقطع أيدي السارقين ولا تأخذك بهم رأفة في دين الله.. سادسًا.. اضبط المال العام واجعل ولايته لخزانة الدولة وأوقف رسوم العبور ورسوم نقاط الحركة داخل المدن وخارجها واقتل التجنيب فإنه سرقة.. سابعاً.. بعد الفراغ من كل هذا فليودع الوزارة والوظيفة الدستورية كل من فلان.. وفلان.. وفلان.. وفلان.. وفلان.. وفلان.. وفلان.. وفلان سبعة منهم فإن زدت فمن عندك. ثامناً.. في الوزارة بعد هؤلاء من لا غناء فيه إلا بهيبتك ومهابتك.. فإما أن يذهب وأما أن يُهاب.. تاسعاً.. عليك بتولية القوي الأمين.. وأرسل حكيمًا ولا توصِهِ عاشراً.. أقم شرع الله ولا تأخذك فيه لومة لائم.. وأجز دستوراً دائماً للبلاد مصدره الكتاب والسنة ولجنة الدستور الإسلامي عندها لك ما يكفيك ويغنيك.. فإذا أدَّيت كل ذلك بعون الله وبفضله فالزم الاستغفار «وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير» صدق الله العظيم وبلغ رسوله الكريم وأنا على ذلك من الشاهدين ألا هل بلغت؟! اللهم فاشهد. ابتهال وضراعة اللهم إني أرفع إليك حاجتي تعبُّداً.. وأنت أعلم بحاجتي مني وأدعوك يا ربِّ طاعة وتأدباً.. فقد أمرتني بالدعاء تربباً فعلمك بي يغنيك عن سؤالي.. وخزانتك لا تفنى بالعطاء والنوال.