رفضت السلطات السورية بسرعة قياسية العرض الذي تقدمت به اللجنة الوزارية العربية الخاصة بسورية، أثناء اجتماعها الأخير في الدوحة، بتأمين مخرج آمن للرئيس بشار الأسد وعائلته مقابل تنحيه عن السلطة، حقنًا لدماء السوريين وحفاظًا على مقومات الدولة السورية ووحدة أراضيها وسلامتها الوطنية ونسيجها الاجتماعي، وضمان الانتقال السلمي للسلطة، على حد قول بيانها الأخير. هذا العرض، علاوة على كونه جاء متأخرًا، يعكس أزمة النظام العربي أولاً، وانعدام وجود مبادرات وحلول جديدة يمكن تطبيقها على الأرض ومرضية لجميع الأطراف، كما أنه يعكس في الوقت نفسه، تصميم اللجنة والأطراف العربية المشاركة فيها على استمرار الضغوط على النظام السوري، والتمسك بقرارها بضرورة تنحيته عن رئاسة البلاد، كطريق وحيد لوقف حمامات الدم. ويتضح هذا من خلال ثلاثة مطالب أو تحركات رئيسة: الأول: مطالبة الأممالمتحدة بتعديل مهمة كوفي عنان المبعوث الأممي والعربي بحيث تتركز على تنحي الأسد، والانتقال السلمي للسلطة وتشكيل حكومة وحدة وطنية تتولى زمام الأمور في المرحلة الانتقالية. * الثاني: الدعوة لاجتماع عاجل للجمعية العامة للأمم المتحدة لإصدار توصيات باتخاذ إجراءات من بينها إقامة مناطق آمنة في سورية وقطع العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع النظام. * الثالث: زيارة رئيس اللجنة الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري، والدكتور نبيل العربي أمين عام الجامعة العربية إلى كل من بكينوموسكو في محاولة لتغيير موقفيهما الداعمين للنظام السوري، والتماهي مع الموقف العربي الأمريكي. من المؤكد أن اللجنة تعرف جيدًا أن الرئيس بشار الأسد لن يتقبل عرضها هذا، ولن يتنحّى عن السلطة، وينتقل إلى منفى في صقيع موسكو، لعدة أسباب ابرزها شخصيته التي تتسم بالعناد والمكابرة أولاً، واستمرار سيطرته وقواته على معظم الأراضي السورية ثانيًا، والاطمئنان إلى الدعمين الروسي والصيني ثالثًا، وتماسك الجيش السوري، أو نواته الصلبة رابعًا. فإذا كانت الثورة السورية ،السلمية بداية، والمسلحة مثلما هو عليه الحال الآن، قد حققت صمودًا إعجازيًا استمر أكثر من ستة عشر شهرًا في مواجهة آلة جهنمية جبارة من القتل دون رحمة أو شفقة، فإنه لا بد من الإشارة أيضًا إلى أن النظام فاجأ الجميع عندما صمد طوال الفترة نفسها، وما زال متشبثًا بالسلطة، رغم حجم القوى المعارضة له، عالمية وعربية بوزن أمريكا وأوروبا والمملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى، التي تجلس على ثروة تفوق الثلاثة تريليونات دولار. صحيح أن النظام السوري تلقّى ضربات قاتلة في الأسابيع الأخيرة، حيث وصلت الهجمات إلى قلب العاصمة دمشق، وحي السفارات، المربع الأمني للنظام «المزة»، وباتت قوات المعارضة على وشك السيطرة على مدينة حلب بعد سيطرتها على المعابر الرئيسة على الحدود التركية والعراقية، ولكن الصحيح أيضًا أن هذا النظام ما زال يقاتل على جبهات عديدة، ويؤكد أنه لم يستخدم إلا أقل من عشرة في المئة من قدراته العسكرية. رئيس عربي واحد فقط هرب من بلاده إلى المنفى، وهو الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، وبعد ستة أسابيع من انفجار الثورة في بلاده، لكن جميع الرؤساء الآخرين فضلوا البقاء ومواجهة مصيرهم، فالرئيس اليمني علي عبدالله صالح ما زال في قصره في صنعاء، والرئيس حسني مبارك رفض عروضًا سعودية وأوروبية بمغادرة مصر، وفضّل مواجهة القضاء على سرير المرض، وإلى جانبه أبناؤه وأفراد عائلته. أما العقيد معمر القذافي فقد فضل وأبناؤه القتال حتى الموت. وربما يفيد التذكير، تذكير اللجنة العربية في هذه العجالة، أن رئيسًا عربيًا آخر وهو صدام حسين تلقى مبادرة مماثلة من دولة الإمارات العربية المتحدة، تقدمت بها إلى القمة العربية في مصر بالرحيل وعائلته إلى منفى آمن مريح، حفاظًا على العراق ووحدته الترابية، وتجنب المواجهة العسكرية مع أمريكا، ولكنه رفض هذا العرض، وعندما دخلت الدبابات الأمريكية بغداد غادرها لكي يطلق رصاصة المقاومة الأولى، ولم يهرب من العراق مطلقًا، ووقف أمام المقصلة وقفة إباء وشمم تاريخية. ولا ننسى أيضًا الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الذي حوصر في مكتبه في رام الله لسنوات من قبل شارون إسرائيل، وكان يعرف أنه سيموت شهيدًا سواء بالسم أو بغيره، على أن يتنازل عن ثوابته ومواقفه، وكان له ما أراد. وجبّ بهذه الشهادة كل ما ارتكبه من أخطاء، حسب اتهامات معارضيه. نحن هنا نسوق أمثلة، ونبرز حالات، ونستخدم علم القياس الذي برع فيه أجدادنا العرب والمسلمون، ولكن هذا لا يعني أن هناك استثناءات، وأن المقارنات ليست جائزة في بعض الحالات لاختلاف الظروف واختلاف الأشخاص، ولكن ما يمكن أن نخلص إليه هو أن بقاء الرئيس الأسد في السلطة قد يطول أكثر مما يتوقعه الكثيرون، الذين يصلّون من أجل حقن الدماء ووقف أعمال القتل بعد أن فاق عدد الشهداء رقم العشرين ألفًا. المأزق السوري مرشح للتفاقم، ونعتقد أن الرئيس الأسد تخلص من أبرز خصومه في السلطة بمقتل الجنرالات الأربعة، سواء كان نظامه يقف خلف عملية تفجيرهم، أو قوات المعارضة السورية أو مخابرات غربية هي المسؤولة عن عملية التخطيط والتنفيذ.. فهؤلاء أبرز المرشحين للحفاظ على هيكلية السلطة في حال رحيله، أو القيام بانقلاب داخلي لإطاحته. الطريق الأقصر للتخلص من النظام في سورية هو التدخل الخارجي، بعد أن عجزت عمليات تسليح المعارضة حتى الآن عن إنجاز هذه المهمة قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية، موعد بدء العد التنازلي للهجوم على إيران، ولا نستبعد هجومًا إسرائيليًا، بدعم عربي لإسقاط النظام تحت غطاء تأمين ترسانة الأسلحة الكيماوية السورية.. ولكن هل سيحقق هذا التدخل أغراضه، وبأي حجم من الخسائر؟ مسؤول سوري قال قبل عشر سنوات، إن الرئيس صدام حسين ارتكب خطأ قاتلاً عندما لم يجهز صواريخه برؤوس كيماوية، ويطلقها على إسرائيل عندما تعرضت بلاده لعدوان أمريكي. الدكتور جهاد المقدسي المتحدث باسم الخارجية السورية ذكرني بهذه المقولة يوم أمس في مؤتمره الصحافي عندما قال إن الأسلحة الكيماوية والبيولوجية السورية لن تستخدم ضد الشعب السوري، وإنما في حال تعرُّض سورية لهجوم خارجي. الأيام المقبلة حبلى بالكثير من التطورات، حيث ستظهر الأمور على حقيقتها، وسنرى ما إذا كانت الأقوال ستقترن بالأفعال أم لا، لكن ما هو مؤكد أن حمامات الدم ستستمر في سورية وسيذهب ضحيتها الآلاف، إن لم يكن عشرات الآلاف، للأسف الشديد.