في إطار فعالياتها الدورية قدمت ندوة العلامة عبد الله الطيب بقاعة الشارقة بالخرطوم الباحث الدكتور هاشم ميرغني في ورقة نقدية حملت عنوان «الصناعتين: قراءة في خطاب المقدمة وتحولات المصطلح».. اختارت هذه الورقة المقدمة التي كتبها أبو هلال العسكري لكتابه «الصناعتين» مختبرًا نقديًا لقراءة خطاب المقدمات وكيفية تشكله وطبيعة حواره النقدي مع المتلقي، ومع متن الكتاب والمتون السابقة والمعاصرة واللاحقة له. ووصف ميرغني هذه الورقة بأنها محاولة لمناوشة التراث.. أي قراءته بشكل مختلف يستثمر الفتوحات الكبيرة التي حدثت في حقل المعرفة النقدية.. ويقول إنها«ليست ورقة لاجترارالتراث، أواستعادته، أو التعبد في محرابه مثلما جرى ويجري الحال في جامعاتنا السودانية لا سيما في أقسام اللغة العربية أو الدراسات الإسلامية التي يقرأ فيها التراث كنصوص مقدسة لا تمس بالحوار النقدي البناء على عكس ما هو حاصل في الخارج حيث يقرأ التراث بشكل مختلف يستنطق مخبوءه مثلما يفعل على سبيل المثال نصر أبوزيد أو جابر عصفور أوسيد القمني وغيرهم». ويقول ميرغني بأن المقدمات عمومًا تندرج تحت العنوان العريض للنص الموازي الذي يحيط بمتن النص، وأسس له العالم الأدبي الفرنسي جيرار جينت وهو يتكون من جزءين هما النص المحيط.. ويشتمل على العنوان والعناوين الفرعية وكلمة الناشر لوحة الغلاف الاستهلال والإهداء والتصدير.. والنص الفوقي.. ويشتمل على المراسلات الخاصة والشهادات والتعليقات وغيرها. ويضيف ميرغني بأن المقدمة تندرج تحت النص المحيط ولكنها تتقدم عن مقدمات هذا النص بأنها الأكثر اكتمالاً حتى أنه يمكن دراستها على مستويين.. مستوى القراءة الداخلية لها باعتبارها نصًا مستقلاً مثلها مثل أي نص آخر.. ومستوى قراءتها كنص مواز يخوض حوارًا داخليًا مع متن النص ومع النصوص المحيطة الأخرى. ويردف ميرغني بأن العسكري استهل مقدمته بحمد الله والثناء عليه دامجًا ذلك مباشرة بغرضه من تصنيفه فيما يعرف ببراعة الاستهلال ومبينًا أن الغاية الأولى من مثل هذه التصانيف في علوم النقد والبلاغة هي الدين.. وذلك كما يقول ميرغني جريًا على سنة المقدمة التراثية العربية المرتبطة بجذرها المعرفي المتمثل هنا بالدين. ويرى ميرغني أن العسكري يمد الصلة بين الدين والبلاغة إلى أقصاها في زعمه أن علم البلاغة يأتي مباشرة بعد التوحيد.. ولكن الإشكال هنا في رأي ميرغني أن العسكري «يرفع البلاغة من حقل اشتغال البشري والإنساني إلى مصاف الغيبي والمتعالي حيث يتعذر الحوار معها.. ويمنع التشكيك في فعاليتها في قراءة النص القرآني أو الشعري أو اختزالها لإعجاز القرآن في لغته واكساب القدسية لعلم بشري تختلف فيه الآراء وذلك بوضعه مباشرة بعد التوحيد».. ويوضح ميرغني أن الإشكال يمضي أبعد وذلك أن العسكري يربط فكرة اللغة بالعرق في إشاراته القوية للعربي والقرشي الصريح اللذين يقابلهما الزنجي والنبطي اللذين يقترنان بالجهل والغباء.. وفي رأي ميرغني أن إشارات العسكري هذه تنطلق من بعض جذور أفكار متغلغلة في الوجدان العربي بأن اللغة «محض اللغة» مقصورة على العرب.. مبينًا أن هذه الأفكار تصطدم ببداهة أن أكثر من حمل لواء العربية كانوا من الأعاجم بل إن العسكري نفسه أحد حملة لواء العربية لم يكن عربيًا صليبيًا أو قرشيًا صريحًا كما يستدل من بعض أشعاره التي تدل على أصله الفارسي. ويمضي ميرغني قائلاً إن مقدمة العسكري لا تعتبر نصًا شفافًا بقدر ما تتخفى وراء خطاب سجالي آيديولوجي ملتبس يعمل كإمكانية للحجب والمصادرة. موضحًا أن الإشكال الأول الذي تثيره المقدمة منذ بدايتها هو الخطاب الآيديولوجي.. الذي هو خطاب مضمر في التباسات المعرفي والجمالي ومرحل من قبل سلطة تملك القدرة على تحديد اتجاهه. ويضيف ميرغني أن العسكري يتحدث عما سمها «تخليط الأعلام فيما راموه من اختيار الكلام» ويعني بهم علماء العربية الذين سبقوه مثل الأصمعي والمفضل وغيرهما. ومن هنا يقول ميرغني يبدأ حوار المقدمة مع المتون السابقة لمتنها والذي يمكن وضعه تحت عنوانين كبيرين هما هاجس الريادة عند العسكري وحواره مع متن الجاحظ.. أما عن الهاجس الأول يلاحظ ميرغني أن الفكرة الأساسية في كل مقدمات العسكري لكتبه الأخرى ككتاب المعاني وكتاب الأمثال والأوائل وغيرها يمكن تلخيصها في جملة واحدة هي.. الطموح المستحيل لتأليف كتاب لم يكتب من قبل.. فقد كان هاجسه أن يؤلف كتابًا لايستطيع أحد أن يؤلفه.. أما الهاجس الثاني كما يقول ميرغني فهو أنه قد سبقت الصناعتين وزامنته كتب عديدة في البلاغة ومقدمة العسكري بسبب طبيعتها الاختزالية لا تستطيع أن تحاور كل هذه النصوص لذلك اختارت أشهرها وأهمها وهو البيان والتبيين للجاحظ.. ويوضح ميرغني أن قيمة كتاب الجاحظ في رأي المقدمة قيمة ببلوغرافية في المقام الأول لاحتوائه على الخطب الرائعة والأخبار واسماء الخطباء والتنبيه على مقاديرهم.. كما أن كتاب الجاحظ في رأي المقدمة يفتقر إلى المنهجية العلمية المنظمة. ويرى ميرغني أن العسكري لم يتوقف لحظة ليقارن بين طريقته وطريقة الجاحظ.. أي بين منهجه المدرسي التصنيفي القائم على تجزئة المعرفة وتبويبها ومنهج الجاحظ القائم على التداعي الحر الخصيب.