لقد اقتسم المؤتمر الوطني والحركة الشعبية الحكم في السودان في الفترة الانتقالية التي امتدت لستة أعوام بين عامي 2005م و2011م، ومنحا هامشاً ضئيلاً في السلطة لأحزاب صغيرة تدور في فلكهما وتخضع لهما وتكون في ولائها لهما ملكية أكثر من الملك. وكانت الرؤية واضحة أمام القيادات الجنوبية المنتمية للحركة الشعبية وهدفها ومبتغاها ومرامها هو الانفصال، ولذلك كان كل تركيزهم واهتمامهم منصباً على الجنوب ولا شيء سواه، وبذلوا أقصى جهد ممكن لوضع البنيات الأساسية والهياكل والأطر استعداداً لقيام دولتهم المنفصلة، وسعوا لتدريب كثير من كوادرهم في الداخل وفي الخارج، وأقاموا مكاتب للحركة بالخارج لتكون كل منها نواة لسفارة الجنوب تحل محل مكتب الحركة. وكان الفريق سلفا كير رئيس حكومة الجنوب يقضي جل وقته بالجنوب ممارساً لسلطاته وصلاحياته هناك، أما منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية فقد استغله لمنفعة ومصلحة الجنوب، ولم يكن الشمال يعنيه في قليل أو كثير، ولم يشغل نفسه بأية قضية من قضاياه، ولم يسجل أية زيارة لأية مدينة من مدنه. وقد سيطرت الحركة الشعبية وقلة من الجنوبيين الآخرين على حكم الجنوب ومقاليد الأمور فيه، ولم يكن للشماليين وجود في السلطة هناك، ونالت الحركة الشعبية 28% من مواقع السلطة بالحكومة الاتحادية وفي الولايات الشمالية على كل المستويات السيادية والتنفيذية والتشريعية والاستشارية، ونالوا مواقع في جهاز الأمن، بل إن أحدهم عين في موقع نائب المدير وهو موقع كبير وحساس، وخصصت وزارة الخارجية حوالى خمس وعشرين وظيفة بدرجة سفير للمنتمين للحركة الشعبية، وآثرت قيادتهم أن تعينهم جميعاً من الجنوبيين وتفضلت على الشماليين المنتمين للحركة على مضض بموقع واحد فقط من هذه المواقع، واعتبرت هذه الوظائف الدبلوماسية قاصرة على الجنوبيين دون سواهم. وكان الجنوبيون الحاكمون أكثر يقظة وحرصاً على مصالحهم من الشماليين الحاكمين، وبموجب اتفاقية نيفاشا انسحبت القوات المسلحة من الجنوب، وأضحى جيش الحركة الشعبية هو المسيطر هناك مع وجود القوات المشتركة، وبنفس القدر كان ينبغي أن يصمم الطرف الشمالي ويصر على خروج كل القوات التابعة للحركة الشعبية من الشمال لتعود لمقر قيادتها العامة بجوبا عاصمة الجنوب، ولكنهم فرطوا وأهملوا وتركوا قوات الحركة الشعبية بالنيل الأزرق وجنوب كردفان التي كانت ومازالت حتى الآن تخضع للقيادة العامة لجيش الحركة الشعبية بجوبا، وتصرف منها مرتباتها وتتلقى منها تعليماتها. وعندما كان الجنوبيون يبذلون قصارى جهدهم للتمهيد لقيام دولتهم المنفصلة أو المستقلة على حد تعبيرهم، كان البعض هنا يربتون على أكتافهم باذلين الجهد والمال في سبيل ما كانوا يطلقون عليه الوحدة الجاذبة، ولا أحد يدري هل كانوا جادين في ذلك أم أنهم كانوا يعتبرون في قرارة أنفسهم أن الجنوب عبء ثقيل عليهم التخلص منه بطريقة ناعمة، ولكنهم أهملوا في حسم الملف الأمني وملفات الحدود والنفط والديون وغيرها، وتركت كل هذه القضايا عالقة، ولذلك سعى «الخواجات» لتمرير أجندتهم الخبيثة عبر المفاوضات التي يتدخلون فيها من وراء ستار. وإن الوطن عندما كان واحداً كان الجنوب يعتمد اعتماداً كلياً على الشمال، وكان إسهامه ضعيفاً في إيرادات الميزانية العامة. وبعد الانفصال فإن ميزانيتهم العامة تعتمد على عائدات النفط. وشركة شيفرون الأمريكية قامت بعملية التنقيب وتوقفت وقفلت الآبار في أواخر النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي بضغوط من الإدارة الأمريكية التي أبدت رفضها واعتراضها على إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية. وبالذكاء والدهاء أقنعت قيادة الإنقاذ والحركة الإسلامية شركة شيفرون بشراء أسهمها وتعويضها لتحل محلها في التنقيب واستخراج البترول شركة تنقيب سودانية اتخذتها القيادة واجهة وغطاءً، ووفرت القيادة المكون المالي والتعويض المطلوب بالعملات الحرة وسلمته لشركة شيفرون، ومضت في خطتها بعزيمة صلبة حتى تم استخراج البترول وتصديره، ولولا هذه العزيمة والقدرة على إيجاد المكون المالي لما تم استخراجه، أي أن النفط لو ترك للقيادات الجنوبية وحدها لظل حتى الآن حبيس الأرض، وبعد الانفصال تغيرت النسب وصار للجنوب القدح المعلى وضعفت وقلت نسبة السودان، ومع كل ذلك تأبى الجنوبيون في إعطائه حقه ووضعوا العراقيل، ولم يأخذ السودان قرشاً واحداً من حقوقه المستحقة حتى كتابة هذه السطور، وقد عضوا اليد التي قدمت لهم عملاً عظيماً باستخراج البترول، وبدلاً من رد الجميل سعوا لشن حرب اقتصادية ضد السودان، وقد تضرروا هم أكثر، ولا مناص من الرجوع لصوت العقل وإيجاد معالجة تحفظ حقوق الطرفين وفق اتفاق عادل. وبعد انفصال الجنوب أضحى ولاء كل الجنوبيين للجنوب، ولا جناح عليهم وهذا شيء طبيعي، وحتى الذين كانوا منتمين للحركة الإسلامية التي تربوا في حجرها وعينتهم في أرفع المواقع وكانوا محل تقديرها وثقتها، فقد آثروا الصمت بعد الانفصال ولم يحدث منهم أي أذى للشمال ولم يدخلوا في أية مناكفات مع الحركة الشعبية في الجنوب، ومن الواضح أنهم يجدون تقدير القيادات هناك، ومن الطبيعي أن يكون ولاؤهم لدولتهم الأم «والدم بحن»، ولكن هناك من المستقطبين الذين رفعهم المؤتمر الوطني مكاناً علياً وأغدق عليهم الأموال الطائلة وبوأهم أرفع المناصب بعد الانفصال أسفروا عن وجوههم الحقيقية بدلاً من وجوههم المستعارة، وأداروا ظهر المجن للسودان وأكثروا من ذمهم وشتمهم له. وكان من المأمول أن يكونوا حمامات سلام تسعى لإقامة جسور تواصل بين البلدين، وتعمل على إزالة المرارات والترسبات القديمة. وخلاصة القول إن ولاء كل الجنوبيين بمختلف مشاربهم لدولتهم الأم، ولا يمكن أن ينحاز أحد منهم للشمال ضد الجنوب في أي نزاع أو خصام يحدث بين الدولتين، وليس في الأمر عجب. ولكن من المؤسف أن بعض وأكرر بعض المنتمين لقطاع الشمال لا كل المنتمين إليه، أصبحوا عملاء لدولة الجنوب، ويقومون بتنفيذ المهام القذرة الوضيعة ضد وطنهم السودان، ومن بين مهامهم إشعال نار الفتن والحرب في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق والقيام بدور المنسق بين قيادة الحركة الشعبية في الجنوب والحركات الدارفورية المتمردة الحاملة للسلاح، وتارة يعلنون تجمع كاودا وتارة الجبهة الثورية، ويجدون دعماً كبيراً مادياً ولوجستياً من القوى الأجنبية المعادية للسودان، وكانوا وما فتئوا يتبجحون بأن لهم قوات تحمل السلاح في المناطق المذكورة آنفاً، وصرحوا بأن لهم خلايا نائمة في العاصمة وغيرها، وأدعوا أنهم أوصياء على ما أطلقوا عليه الجنوب الجديد، وسعوا إلى أن يكونوا ورثة للدستوريين الجنوبيين الذين كانوا يشغلون مواقع في الشمال قبل الانفصال بالضغط على الحكومة لتعقد معهم اتفاقية مماثلة لاتفاقية نيفاشا، وفي سبيل ذلك أشعلوا نار الفتن والحرب في جنوب كردفان والنيل الأزرق وهدفهم الوصول لكراسي السلطة، وقد اتخذوا سكان جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق دروعاً بشرية ومحرقة، وقد عقد معهم مساعد رئيس الجمهورية ونائب رئيس المؤتمر الوطني اتفاقية إطارية في أديس أبابا قبل عدة أشهر، ورفضت رسمياً وشعبياً ووئدت. إن الفريق سلفا كير انفصالي ولم تعرف عنه أية ميول وحدوية في يوم من الأيام، ولذلك فإن مشروع السودان الجديد يعتبر بالنسبة له مجرد تهويم نظري وهوس ولا يعنيه في شيء، وتركيزه على الجنوب، ولكنه في خطابه الأول عند إعلان الانفصال رسمياً ورفع علم دولتهم، ذكر أنه لن ينسى من ساندوهم وتحالفوا معهم، والإشارة هنا لقواته المسلحة التي مازالت بالشمال، ولذلك ساعدهم وساندهم ليصبحوا شوكة حوت وخنجراً مسموماً في خاصرة الشمال، أما القوى السياسية الشمالية الأخرى فقد استنفدت أغراضها بالنسبة لهم ولفظوها لفظ النواة. ولكن على العكس من سلفا كير فإن باقان أموم مازال هو عراب مشروع السودان الجديد وفق برنامج استئصالي في الشمال، وينطلق في هذا من عقد وترسبات وثأرات قديمة وحسابات يريد تصفيتها، إذ أنه منذ أن كان طالباً في المرحلة الثانوية بمدينة كوستي كان يجاهر بعدائه لكل ما يمت للإسلام والعروبة بصلة. وعن طريق باقان والخواجات تسعى هذه المجموعة لإعادة الاتفاقية الإطارية من مرقدها الذي قبرت فيه، وهذه المرة أتوا بوجه جديد مدعين إن دوافعهم هي إيصال الإغاثة، ويريدون إقامة معسكرات شبيهة بمعسكرات النازحين في دارفور، لتأتي المنظمات الأجنبية ويتسلل عبرها كثير من الأجانب الخبثاء لتحقيق أهدافهم، والسعي في خاتمة المطاف لفصل هذه المناطق. وعلى الأفراد المتحكمين في قطاع الشمال إيقاف الحرب ونزع سلاح المتمردين وتسليمه لقيادتهم في جوبا، والسعي لعملية دمج هذه الفرق في القوات النظامية، وإيجاد بدائل أخرى بالتراضي لمن لا يتم استيعابهم لعدم رغبتهم أو لعدم استيفائهم الشروط المطلوبة، مع إعادة الباقين معززين مكرمين لقراهم. ولكن من الواضح أن الحديث عن إيصال الإغاثات وغيرها هو ذر للرماد في العيون، وهدفهم الركوب على هذه الموجة لتوصلهم لاتفاق مع النظام الحاكم يفضي إلى وصولهم ب «الفهلوة» لكراسي السلطة والجاه، وهم يتخذون سكان جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق مجرد سلالم يريدون الصعود بها لأعلى، ولا يهمهم في قليل أو كثير مصيرهم، وقد كانوا هم سبب الفتنة وإثارة الحرب من أجل غايات رخيصة. ولا يوجد الآن بمفوضية تسجيل الأحزاب تنظيم يحمل اسم الحركة الشعبية، لأن الأغلبية الكاسحة الساحقة من ذلك الحزب قد أضحت في دولة أخرى، وقيادة تلك الحركة الآن بجوبا وليست في الخرطوم، وتبعاً لذلك فإن على من يريد تسجيل حزب في السودان بأي مسمى يرتضونه «قطاع الشمال أو الحركة الشعبية...الخ»، فإن عليهم اتباع إجراءات التسجيل العادية، مع الالتزام بالعمل السياسي السلمي دون رفع للسلاح. وإذا أجيز تسجيل حزبهم فإنه يغدو كعشرات الأحزاب المسجلة الأخرى. وكثير من المراقبين يؤكدون أن عضويتهم القاعدية ضئيلة وفي وزن الريشة، وفي أية محلية من محليات السودان يمكن حصر عددهم الضئيل الذي لا يكاد يذكر بسهولة ويسر، ولكي لا تحدث مغالطة فإن الانتخابات القادمة هي الفيصل وستكشف حجمهم الطبيعي، أما محاولة سعيهم لاقتسام السلطة الآن وبلا وجه حق فإنها «فهلوة» و «استهبال سياسي». إننا نتطلع لجوار آمن مع دولة الجنوب، ونأمل حل القضايا العالقة، ونرجو ألا تكون هذه المجموعة من قطاع الشمال خميرة عكننة لتعكير الأجواء بين الدولتين. والسؤال الملحاح الذي يدور في الشارع السوداني الآن: ما هو الموقف الرسمي للنظام الحاكم من المفاوضات في أديس أبابا مع هذه المجموعة؟ وقد بدأ بعض المسؤولين هنا يدلون بتصريحات ناعمة، وكل منهم يريد أن يؤكد للآخرين «والخواجات» خاصة، بأنه من حمائم النظام لا من صقوره، وينطبق على هؤلاء القول «أسد عليَّ وفي الحروب نعامة»، وهم يجيدون الضغط على المواطنين واللين مع الآخرين، والشعب يريد موقفاً واضحاً. وفي المرة الفائتة كان موقف الرئيس واضحاً، وبغضبة عمرية بشيرية قضى على ذلك الاتفاق الإطاري وقبره، والجميع يتطلع الآن لمعرفة الموقف الرسمي للنظام على لسان الرئيس، ولا مشاحة في أن يمارس الجميع نشاطهم السياسي وفق أحجامهم الطبيعية، مع الالتزام بالقانون وبلا انتفاخة بالونية كاذبة.