في رمضان عام 551 ه، فتح السلطان العادل نور الدين قلعة حارم بعد أن استغاث بعساكر المسلمين فجاءوا من كل فج عميق ليأخذ ثأره من الفرنج ، فالتقى معهم بتل حارم فكسرهم كسرة عظيمة ، وأسر البرنس صاحب أنطاكية والقومص صاحب طرابلس والدوك مقدم الروم ، وابن جوسلين ، وقتل منهم عشرة آلاف ، وقيل: عشرين ألفًا . وقد حاصر نور الدين هذه القلعة حصاراً طويلاً، وكان بالقلعة شيطان من شياطين الفرنجة يعرفون عقله ويرجعون إلى رأيه فأرسل إليهم يقول: «إننا نقدر على حفظ القلعة وليس بنا ضعف فلا تخاطروا أنتم باللقاء فإنه إن هزمكم أخذها وغيرها والرأي مطاولته فأرسلوا إليه وصالحوه على أن يعطوه نصف أعمال حارم»، لكنه أبى وظل محاصراً للقلعة، وكان الوضع في غاية الحرج لكن السلطان نور الدين زنكي كان دائم الإبتهال لله ، وعندما التقت قواته بالصليبيين الذين كانوا يفوقونهم عُدة وعدداً، انفرد نور الدين رحمه الله تحت تل حارم، وسجد لربه عز وجل، ومرّغ وجهه، وتضرع وقال: «يا رب هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك، وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك، فانصر أولياءك على أعدائك، أيش فضول محمود في الوسط؟»، يقول أبو شامة: «يشير نور الدين هنا إلى أنك يا رب أن نصرت المسلمين فدينك نصرت، فلا تمنعهم النصر بسبب محمود إن كان غير مستحق للنصر. ولما التقى الجيشان ثبت المسلمون ثبات الجبال، وأكرم الله جنده بنصر مؤزر. وقد أورد أبو شامة حول تضرع نور الدين في معركة حارم قصة تدل على علو مكانته، وإكرام الله له، يقول ابو شامةً: «وبلغني أن إماماً لنور الدين رأى ليلة رحيل الفرنج عن دمياط في منامه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أَعْلِمْ نور الدين أن الفرنج قد رحلوا عن دمياط في هذه الليلة، فقال: يا رسول الله، ربما لا يصدقني، فأذكر لي علامة يعرفها، فقال : قل له بعلامة ما سجدت على تل حارم وقلت : يا رب انصر دينك ولا تنصر محموداً، من هو محمود الكلب حتى ينصر؟». قال فبهت ونزلت إلى المسجد، وكان من عادة نور الدين أنه كان ينزل إليه بغلس، ولا يزال يتركع فيه حتى يصلي الصبح، قال فتعرضت له فسألني عن أمري، فأخبرته بالمنام وذكرت له العلامة، إلا أنني لم أذكر لفظة الكلب، فقال نور الدين: أذكر العلامة كلها و ألح علي في ذلك، فقلتها، فبكى رحمه الله وصدق الرؤيا، فأرخت تلك الليلة، فجاء الخبر برحيل الفرنج بعد ذلك في تلك الليلة». وقد خلد الشعراء انتصار نور الدين على الصليبيين يوم حارم بقصائد منها: ألبست دين محمد يا نوره عزًا له فوق السها آساد ما زلت تشمله بمياد القنا حتى تثقف عوده المياد لم يبق مذ أرهفت عزمك دونه عدد يراع به ولا استعداد إن المنابر لو تطيق تكلمًا حمدتك عن خطبائها الأعواد ملق بأطراف القريحة كلكلًا طرفاه ضرب صادق وجلاد حاموا فلما عاينوا خطب الردى حاموا فرائس كيدهم أو كادوا ورأى البرنس وقد تبرنس ذلة حزمًا لحارم والمصاد مصاد من منكر أن ينسف السيل الربى وأبوه ذلك العارض المداد أو أن يعيد الشمس كاسفة السنا نار لها ذاك الشهاب زناد لا ينفع الآباء ما سمكوا من ال علياء حتى يرفع الأولاد