أخي الصائم.. لا يخفى عليك أنَّ الصومَ إمساكٌ للبطن والفرج عن الشهوات؛ كما عَبَّرَ عنه القرافيُّ رحمه الله بأنه «الإمساكُ عن شَهْوَتَي الفم والفرج أو ما يقوم مقامهما؛ مخالفةً للهوى في طاعةِ المولى». وصرَّح الصنعانيُّ رحمه الله بأنه «يتبع ذلك الإمساكُ عن اللَّغوِ والرَّفَث وغيرهما من الكلامِ المحرَّمِ والمكروهِ؛ لوُرُودِ الأحاديثِ بالنَّهْيِ عنها في الصَّومِ زيادةً على غيره». حقيقة الصوم: فليس الصومُ إذن مجرَّدَ ذلك التصوُّرِ المتبادِرِ إلى أذهانِنا مُفعَماً بالإحساس بفَقْدِ الطعامِ والشَّرابِ؛ فيتوجَّهُ من أجل ذلك بالمُلاحَظةِ تِلْقاءَ مشاعرِ الجوعِ والعطش أكثرَ من اهتمامِه برؤيةِ مَشاهِدِ الجهل والسفاهة والطيش! ومن هنا يجيء تعبيرُنا عن الصِّيامِ بمجرَّد «الكفِّ عن شَهْوَتَيِ البطنِ والفَرْجِ»؛ دليلاً على ضآلةِ التصوُّرِ الذِّهنِي وضحالةِ الوعْيِ النفسي لفقه «الصِّيام»؛ حيث صِرْنا نستشعر في تعريفِنا للصيام معانِيَ الإمساك عن الطعام والشرابِ والشهوة! بمعزلٍ عن استحضارِ معاني الإمساك عن السفاهة واللَّغوِ والخُصُومة! ورحم الله القرطبي؛ فقد ذكر أحَدَ وَجْهَيِ التفسير لقولِ اللهِ عزَّ وجلَّ حاكياً عن مريم عليها السلام: «إنِّي نذرتُ للرحمنِ صوماً» أنه »كانت سُنَّةُ الصِّيامِ عندهم: الإمساك عن الأكل والكلام«، ثم ختم رحمه الله بقولِهِ: »ومن سنَّتِنا نحن في الصِّيامِ الإمساكُ عن الكلام القبيح«. فمما ينبغي معرفتُهُ من فقه «إنِّي صائم!» تربيةُ النفسِ على تحمُّل الأذى والتخلُّق بالحِلْمِ والأناة! وحَمْلِ النفسِ على الصَّبْرِ وكَظْمِ الغيظِ والعفو عن الناس! وما ألطفَ ما قرّره ابنُ القيِّم شارحاً قولَ شيخ الإسلام الهروي: »إنّ من حقائق التوبة طلبَ أعذارِ الخليقة« فقد ذكر أنّ مراده »إقامة أعذارِهم في إساءتِهم إليك، وجِنايتهم عليك، والنظر في ذلك إلى الأقدار، وأنَّ حركاتِهم بمنزلة حركاتِ الأشجار؛ فتعذرَهم بالقدر في حقِّك لا في حق ربِّك فهذا حقٌّ وهو من شأنِ ساداتِ العارفين، وخواصِّ أهلِ الله الكُمَّل: يفنى أحدُهم عن حقِّه ويستوفي حقَّ ربِّهِ، ينظر في التفريط في حقِّه وفي الجناية عليه إلى القدر... وهذه كانت حال نبيِّنا صلى الله عليه وسلم كما قالت عائشة رضي الله عنها: «ما ضربَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بيدِهِ خادماً ولا دابّةً ولا شيئاً قطُّ؛ إلا أن يُجاهِد في سبيل الله! ولا نِيلَ منه شيءٌ قطُّ؛ فينتقم من صاحبهِ إلا أن يُنتَهَك شيءٌ من محارمِ الله تعالى؛ فينتقمَ لله تعالى!»« ورحم الله البخاريَّ فقد أفرد في كتاب الأدب تراجم بديعةً متتابعةً تَفِي بهذا الغرض: باب، وباب، وباب، وباب صومُ الجوارِح: أخي الصائم.. لا شكَّ أنَّ حفظَ الجوارحِ كلِّها من أعظمِ أغراضِ الصوم، وليس الشأنُ في الامتناع عن الطعام والشراب فحسب! فمن لم يحفظْ لسانَه وسمعَه وبصرَه؛ ما هي ثمرةُ صومِهِ؟ وما فائدةُ تَعَبِهِ ونَصَبِهِ؟! كما أخرج البخاريُّ في باب «مَنْ لم يدعْ قولَ الزورِ والعملَ به في الصوم»! مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَن لم يدعْ قولَ الزورِ والعملَ به؛ فليس لله حاجةٌ في أنْ يَدَعَ طعامَه وشرابَه»! ولله درُّ ابن رجب حيث قال: »قال بعضُ السلف: أهونُ الصومِ تركُ الشرابِ والطعامِ، وقال جابر: إذا صمتَ؛ فلْيصُمْ سمعُك وبصرُك ولسانُك عن الكذب والمحارم، ودعْ أذى الجارِ، ولْيكنْ عليك وقارٌ وسكينةٌ يومَ صومِك، ولا تجعلْ يومَ صومِك ويومَ فطرِك سواءً: إذا لم يكنْ في السمعِ مِنِّي تَصاوُنٌ وفي بصري غضٌّ وفي منطقي صمتُ! فحظِّي إذن من صَومِيَ الجوعُ والظما فإنْ قلتُ: إنِّي صُمتُ يومي صُمتُ! وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «رُبَّ صائمٍ حظُّهُ من صِيامِهِ: الجوعُ والعطش، ورُبَّ قائمٍ ليس له من قيامِهِ إلا السهر»... ولهذا المعنى والله أعلم ورد في القرآن بعد ذكر تحريم الطعام والشرابِ على الصائم بالنهار، ذكرُ تحريمِ أكلِ أموالِ الناسِ بالباطل؛ فإنّ تحريمَ هذا عامٌّ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ؛ بخلاف الطعامِ والشرابِ؛ فكان إشارةً إلى أنَّ من امتثل أمرَ الله في اجتناب الطعام والشرابِ في نهارِ صومِهِ؛ فلْيمْتثِلْ أمرَه في اجتنابِ أكلِ أموالِ الناسِ بالباطل؛ فإنه محرَّمٌ بكل حالٍ لا يُباحُ في وقتٍ من الأوقات«. صونُ اللِّسان عند الصِّيام: فالمسلمُ الكَيِّسُ يعلمُ أنّ كلامَهُ معدودٌ عليه، وأنه «ما يلفظ من قولٍ إلا لديه رقيبٌ عتيد» فهو يخشى أن يجيء يومَ القيامة مع المُفْلِسِين «ووُضِعَ الكتابُ فترى المجرمين مُشفِقين ممّا فيه ويقولون يا ويلَتَنا ما لهذا الكتابِ لا يُغادِرُ صَغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها»! ولذلك فالصائم يستحضِر نصيحةَ القحطاني: جَمِّلْ زمانَكَ بالسكوتِ فإنهُ زَيْنُ الحَلِيمِ وسُتْرَةُ الحيرانِ! كُنْ حِلْسَ بيتِكَ إنْ سمعتَ بفتنةٍ وتَوَقَّ كلَّ مُنافِقٍ فَتّان! ولله درُّ أبي زكريّا النووي فقد تفنّن في «رياض الصالحين»؛ فأورد حديثَ الترمذي عن أبي هريرة «مِن حُسن إسلام المرء تركُهُ ما لا يعنيه» في «باب المراقبة» فأفاد وأجاد! وقال رحمه الله تعالى: »ينبغي لكلِّ مُكلَّفٍ أن يحفظَ لسانَه عن جميعِ الكلامِ إلا كلاماً ظهرتْ فيه المصلحة؛ ومتى استوى الكلامُ وتركُهُ في المصلحة فالسنة الإمساكُ عنه؛ لأنه قد ينجرُّ الكلامُ المُباحُ إلى حرامٍ أو مكروهٍ، وذلك كثيرٌ في العادة؛ والسلامة لا يعدلُها شيءٌ. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلْيقلْ خيراً أو ليصمتْ» متفق عليه.