يخرج بعض الأبناء من بلدنا الحبيب السودان بقصد الاغتراب أو الهجرة وهم يحلمون بتحسين أوضاعهم المادية، وتغيير حال أسرهم للأفضل، بعضهم يقصد البلدان العربية والبعض الآخر يقصد الدول الغربية، ومنهم من يتوفق في إيجاد فرصة عمل وتستقر أوضاعه، لكن البعض الآخر تبتلعه الغربة وتنقطع أخباره عن أهله، فيظلون في بحث دائم عنه، قضية جديرة بإلقاء الضوء عليها لمعرفة أسبابها من خلال عرض بعض النماذج والتطرق لرأي علم النفس والاجتماع حولها.. كانت نقطة البداية عندما التقينا ( ف أ) امرأة فوق السبعين ظلت تعاني من فراق ابنها الذي هاجر إلى الجماهيرية العربية الليبية من أجل العمل، لكن ابتلعته الغربة وانقطع اتصاله بأهله لأكثر من(25) عاماً ومازالت الأم المفجوعة تنتظر بارقة أمل أو اتصال تسمع من خلاله صوته الذي افتقدته كثيراً، ولا تعلم سبباً لغيابه وانقطاعه عنهم. أما (ز) الذي يبلغ من العمر «45» عاماً وقضى نصفها في أحد البلدان الغربية لم يحن قلبه لأمه التي انهكها المرض، وهي تعاني ألم فراقه، ولم يفلح إخوته في اقناعه بالعودة رغم أنه لم ينقطع عنهم هاتفياً، كما ذكر أحد اشقائه الذي تحدث بحسرة بأن أكثر ما يؤلمه أن شقيقه الغائب لم يودع أمه إلى أن غادرت الحياة ولسانها يلهج باسمه. طموحاتهم عالية حملنا كل هذه الآلام وتوجهنا بها إلى الباحث الاجتماعي محمد أحمد عبد الحميد حمزة الخبير في تنمية المجتمعات الذي اوضح أن المفقودين بالخارج أو المهاجرين بطرق غير شرعية بالتالي اصبحوا مجهولي العنوان والهوية، اصبحوا مفقودين بنظر القانون الدولي العام، وأغلبهم في مرحلة الشباب، وأكد أنها ظاهرة متلازمة لدول العالم الثالث والدول العربية غير الغنية أو التي ليس بها بترول أو عملة حرة عالمية، وتنقطع بهم الحياة في الخارج. وقال إن هؤلاء يدفعهم الطموح بحثاً عن العيش الكريم، وما يميزهم عن غيرهم سقف طموحاتهم العالي وروح المغامرة والجرأة للخروج عن المألوف، ويساعدهم في ذلك أن خروجهم جاء في سن تفتق ذهني وطموح عالٍ وأحلام متقدة.. ضحايا تجار البشر ويشير محمد أحمد إلى أن الخطورة في أن هؤلاء المفقودين لا يستقلون الطائرات بأوراق ثبوتية وإنما يعتمدون على على قراصنة البحر للهجرة، ودائماً تكون بمبالغ زهيدة وهو ما اصطلح عليه علماء الاقتصاد والسياسة مؤخراً ب «تجار البشر». وأغلب هؤلاء القراصنة محترفون لهذه المهن ويتركزون دائماً في الجزر وبالاخص جزر شمال البحر الابيض المتوسط ولديهم مقدرات دفاعية عالية ودعم لوجستي غير محدود من التجار الكبار وتدخل هذه التجارة ضمن دائرة التجارة غير المشروعة عالمياً، وهؤلاء التجار يستغلون من انقطعت به السبل ووقع ضحية الإحباط النفسي فتصبح التبعات اكثر خطورة بعد ان يقع بايدي سلطات الدول التي يدخلون اليها.. إحباط نفسي ومن جهته يرى د. عمرو مصطفى الاختصاصي النفسي أن اغلب الذين ينقطعون عن أهاليهم من المغتربين او المهاجرين هجرة غير شرعية تسيطر عليهم حالة الاحباط التي تجعلهم يقبلون بأي وضع مهما كانت خطورته، فتجدهم في حالة من الصراع ما بين الاحباط الذي يعيشونه وواقعهم واوضاعهم الاقتصادية السيئة وطموحهم في كيفية تحسينها، والصراع ما بين انسان يعيش بوضع سيء وسعيه لتحسينه مهما كانت السبل ان كانت مشروعة ام غير مشروعة.. الاستلاب الثقافي.. ولكن د. عمرو يُرى أن احد اهم الاسباب هو الاستلاب الثقافي وظهور ثقافات جديدة في المجتمع السوداني.. يبينها بانها ينطبق عليها مقولة بن خلدون «ان المغلوب دائماً مولع باقتداء الغالب نحلته وأكله وملبسه وسائر أحواله وعوائده» والتي بتطبيقها في الواقع نجد السبب الرئيس لهذه الظاهرة ان الشباب يتطلع لحياة غير واقعية وان مقومات البيئة لا يمكن أن توفرها له، واشار بقوله ان الذي يعزز ذلك القنوات الفضائية التي تجعلهم يحلمون او بالتالي يصبح سلوكاً وهدفًا يجب تحقيقه بالاغتراب أو الهجرة غير الشرعية خاصة ان اغلب الشباب يتمثل بالمجتمعات الغربية في اللبس والأغاني فهم مهيئون نفسياً ؛ والطامة الكبرى بعد ان يصل الواحد منهم الى تلك البلاد يفاجأ بواقع غير الذي شاهده في الأفلام وبعدها تنهار كل احلامه لأنه يواجه بعوائق أولها التمييز العرقي سواء كان معلنًا أو غير معلن ويفاجأ بأن حلمه لا يمكن تحقيقه فيلجأ للاعمال الهامشية، اضافة لذلك صعوبة الاندماج في هذه البلدان لتعدد طبقاتها، أيضاً عامل اللغة والعادات والتقاليد تصبح حاجزاً وباجتماع كل هذه العوامل تحدث له مشكلات نفسية ويشعر بفقدان الهوية في بعض الحالات وفي بعض الأحيان يصاب بالاغتراب النفسي ويكون هدفه الذي جاء من أجله انتهى ويفضل أن ينزوي ويقطع صلته بأسرته حتى لا يروا الفشل الذي وصل اليه أو المشكلات التي يعانيها، كل هذه الأسباب قد تكون حيلاً نفسية تجعله لايريد الاتصال بأهله حتى لا يتذكر الواقع الذي يعيش فيه..