مع حلاوة الفرحة بختام رمضان بعد ان مضى مسرعًا تاركًا اعذب لحظات النقاء الروحي بين الصيام والقيام والمساعي الحثيثة للفوز بلحظة ولو عابرة من بركات ليلة القدر وبعد اتمامه ثلاثين يومًا كانت الارواح تتوق لفرحة المؤمن الاولى بفطره و المنى يداعب النفس ان يكون الله كتب لها الفوز بقبول العبادة و بين يدي صبيحة العيد السعيد و بين ما توجهت جموع الشعب السوداني نحو الساحات العامة لاداء صلاة العيد كانت ارادة الله الغلابة قد اختارت واصطفت واجتبت ثلة مباركة من ابناء هذه الامة الولود واتخذهم الله شهداء في سبيله.. اولئك اخوتي شهداء العيد في طائره تلودي لم تمض وتكتمل لحظات تبادل التهاني بين اهل السودان عقب اداء صلاة العيد حتى تسرب الخبر المدوِّي، وما رأيت تسارع امتزاج الفرحة بالحزن كما حدث صبيحة العيد و سبحان الله الدائم وجهه الذي اختار هذه الكوكبة واصطفاها بالشهادة واختار لها الزمان والمكان ولله في خلقه و تصريفه الاقدار شان وتدبير !!!! تلقيت الخبر الفاجع مبكرًا جدًا و بعد لحظات قليلة من الحادث عبر شبكة الاتحاد العام للمرأة السودانية الموصولة برباط الاخاء الصادق هاتفت امينة الاتحاد بتلودي التي كانت في استقبال الوفد القادم من المعايدة الاخت {غالية حاج عبده } الامينة الاجتماعية ومسؤولة كردفان باتحاد المرأة ونقلت غالية الخبر الفاجعة للامين العام دكتورة اقبال جعفر ومن ثم وصلني الخبر ولحظتها لم يتم التأكد من اعضاء الوفد عل الاقل في دائرتنا تلك وكل الذين رشحت اسماؤهم ساعتئذ هم وزير الارشاد والاوقاف و معتمد بحري وسرعان ما تكثفت الاتصالات وخفقان القلوب يزداد وامتزجت فرحة التهاني بالعيد بخبر الاستشهاد والحادث الاليم وبين الاعلان الرسمي للخبر وسمعاننا له قرابة الساعتين ولكأنها دهر طويل.. ولو لا ان امينة تلودي المكلومة نقلت الخبر المؤكد عقب تحطم الطائرة مباشرة وسردت رؤيتهم للنيران تلتهم الطائرة بما حوت من الاجساد الطاهرة لولا ذلك لمنينا النفس بأن الخبر ربما كان غير صحيح استبعادًا له ولكن هيهات!! كان اخوتي الشهداء على موعد مع الشهادة التي طالما منوا النفس بها. ورويدًا رويدًا تتابعت الأنباء عن العقد النضيد من الذين استجابوا لتكليف القيادة بمشاركة المجاهدين المرابطين بفرحة العيد، بعدها تحركت جموعنا نعزي بعضنا البعض نطوف على قلوب الشهداء والقلوب الحزينة، والعيون دامعة ولا نقول الا ما يرضي ربنا ان لفراقهم لمحزونون نعم حقًا وباسمه عز وجل محزونون محزونون وانا لله وانا اليه راجعون وفي بيوتهم سمعنا ورأينا عجبًا من اهله و جيرانهم واحباباهم واخوتهم في العقيدة والوطن الكل يحكي ويسرد المواقف النبيلة للشهيد وكيف كان في صلته وبره باهله و جيرانه كيف كان رحيمًا بالضعفاء والارامل والايتام، وكيف كان يتمنى الشهادة ويتوق اليها وكيف وكيف وتطول الحكايات والسرد الصادق الممزوج بالدموع السخينة، ذرف الجميع الدمع رغم الرضى والتسليم وبشرى الشهادة عقب الصيام والقيام وختم القرآن و لكن المصاب كان جللاً وتذكرنا حزن النبي صلى الله عليه وسلم على عمه الشهيد حمزة و كيف استبكى النساء عليه عندما قال {لكن حمزة لا بواكي له } و هنا اجهشت الصحابيات بالبكاء، وعلى مثل الذين مضوا صبيحة العيد فلتبكِ البواكي رغم الرضى بعد الرضى والتسليم بقضاء الله. شهر رمضان الماضي كان اول فرصة التقيت فيها نفرًا من هؤلاء الشهداء الاولى كانت في العاشر من رمضان متزامنة مع ذكرى فتح مكة عندما شارك الشهيد الجعفري ممثلاً لوالي الخرطوم ختام تكريم حافظات القرآن الكريم بولاية الخرطوم الذي نظمته امانة المرأة ولاما زالت كلماته الصادقات تلامس الآذان وكنت اعرفه قبلاً من خلال علاقته المتميزة مع اتحاد المرأة في الولاية وهو معتمد لأمبدة وشرق النيل واليوم تفتقده ولاية الخرطوم وواليها الذي كان له ذراعًا مساعدًا وقد ملأ الفراغ الذي خلفه غياب الاخ مندور في رحلة الاستشفاء الأخيرة، اما امير الركب غازي الصادق الرجل الخلوق سمح الطباع فقد امتدت معرفتي به منذ ايامه في بحر ابيض حتى انتقل للخرطوم، وقد تشرفت بمرافقته بزيارة الحاجه فاطمة محمد صالح في اطار برنامج «تواصل» في النصف الاول من رمضان هذا العام واذكر جيدًا كلماته الصادقات واحتفاءه بها ووعده لها بمراجعة بعض الهموم الخاصة باوقافها، ومع نسمات ذكرى بدر الكبرى كان الشهيد على موعد آخر مع المرأة بشهوده وتكريمه لحافظات القرآن الكريم على المستوى القومي فاغدق عليهن بفرص الحج استجابة لمبادرة امانة المرأة بالمؤتمر الوطني اعلاءً لاهل القرآن وخاصته من النساء، تقبل الله الشهيد غازي في الخالدين هو واخوته من الشهداء. رمضان كان فرصة اخرى لمعرفة العجلى بالشهيد طارق معتمد بحري فقد جمعتنا حديقة منزل السيدة نفيسة احمد الامين التي زارها النائب الاول في اطار «تواصل» و بتواضع جم عُرف نفسه للحضور قبيل مجيء الشيخ علي عثمان فما زالت بسمته الوضيئة ووجهه الصبوح يتراءى في الخاطر، اما الشهيد مكي علي بلايل تقبله الله فجمعتني به مسيرة العمل السياسي فقد ترافقنا في المكتب القيادي للمؤتمر الوطني وخلال تجربته في العمل الدستوري وعضوية البرلمان فقد تعاون معنا في اتحاد المرأة في الكثير من المبادرات في شأن السلام والاقتصاد كان مكي شخصية فذة ومتميزة وله رؤى سياسية يحترمها حتى الذي يختلف معه، و عندما غادر المؤتمر الوطني مؤسسًا لحزب العدالة كانت مواقفه الوطنية المشرفة، التقيته قبل اشهر في قاهره المعز وكنا في وفد البرلمان وهم كانوا وفدًا مختارًًا من ابناء جنوب كردفان في رحلاتهم الحوارية مع ابناء النوبة في الخارج بحثًا عن السلام الا تقبل الله الأخ بلايل. وتتوالى هذه الخواطر ونقف عند الشهيد عبدالحي الربيع الذي كان كما وصفه اخوته في التلفزيون ربيعًا بينهم فكم التقيناه في مدن السودان التي عمل بها خاصة فاشر السلطان ابان ازمة دارفور تقبله الله في الفردوس الأعلى والعزاء موصول الى اسرته الصغير في نيالا البحير فقد كان الاخ والابن الوحيد فيها والعزاء لاسرته الكبيرة من كل اهل السودان الذين عرفوه واجبوه و لاسرة التلفزيون في المصاب الجلل و الحمدلله على كل حال.. وفي محلية كرري االتي تشرفت بتقديم العزاء بعدد من الشهداء يتقدمهم الشهيد الداعية محمد البخيت البشير الذي ربطتني به مسيرة العمل في التعليم والدعوة وهو احد الاعمدة الركينة في الساحة والسياسية والدعوية وكانت الدعوة وهمومها تجري منه مجرى الدم وحكت لي زوجه الخلوقة الصابرة المحتسبة انه اوصاهم على التمسك بالكتاب والسنة ورعاية الابناء على هذا الدرب وقد اشار إلى احتمال انه قد لا يعود و قد كانت الشهادة امنية له لبى من اجلها داعي الجهاد مرات ومرات ولكن قدر الله ان يكتبها له على مشارف تلودي الأبية . اما الشهيد عبد العظيم الفتى اليانع ابن الريف الشمالي فلم تجمعني به مناسبة عن قرب ربما لانه من الجيل الثاني الذي حمل رسالة العمل السياسي، وعندما دخلت منزل خاله الشيخ الخليفة في الحارة (37) كنت احسب اني لا اعرف اسرته ولكن سرعان ما احتضنتني وجوه كثيرة اعرفها وتعرفني فامتزجت دموعنا حزنًا عليه خاصة بعد رؤيتي لابنائه الصغار الذين لم يتجاوز كبيرهم مرحلة الروضة وترك لهم بعد الله ورسوله امهم الشابة الصابرة ورغم ان الشهيد يتيم الابوين الا ان الجميع كان له آباء و امهات بفضل طيب معشره وسيرته الطيبة. وبينما كنت اود اختتام الجولة في كرري دلفت على منزل العمة لمعايدتها فإذا بي على موعد مع شهيد آخر وهو الشهيد اللواء صلاح الذي اكمل بناء منزل جميل لاسرته جوارهم وقد كان يعد له ان تستقر فيه معه عقب تعاقده للمعاش الذي اقترب اوانه و قد كان معجبًا بالحي واهله خاصة انه يجاور المسجد وذكروا لي انه حتى يوم السبت آخر ايام رمضان كان معهم ولأن بنى الشهيد لأسرته منزل المستقبل ولم يسكنه فإن الله سوف يعوضه خيرًا منه في تلك التي عرضها كعرض السموات والارض حيث النعيم الدائم، تقبله الله والعزاء لأسرته في الجزيرة التي بكت ابنها البار و العزاء موصول لكل القوات النظامية التي احتسبت شهاداءها ضمن منظومة العقد النضيد و شهداء العيد. مضى الشهداء على العهد وصعدت ارواحهم الطاهرة لبارئها، وان كان ثمة دروس مستفادة فهي ان نصدق مع الله و نخلص النوايا له و نشمر السواعد لمواصلة الدرب في المسيرة التي مهروها بدمائم الزكية والعمل لرفعة السودان و ترسيخ السلام وترؤس الصف الوطني وتعزيز الثقة في مقدرات هذه الامة مهما كثرت الابتلاءات وتعاظم الكيد الخارجي وعقوق بعض ابناء السودان، فلنتذكر دومًا التضحيات الجسام لأرتال الشهداء الذين مضوا الى ربهم وتركوا من خلفهم ذرية ضعافًا زغب الحواصل لا ماء ولا ثمر رغم ذلك كان الايثار للوطن الغالي .«من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا» وانا لله وانا اليه راجعون ولا حول و لا قوة إلا بالله