٭ في عام 1982م كانت لنا رحلة أو زيارة برفقة المشرف السياسي آنذاك الرائد مأمون عوض أبو زيد إلى محافظة جنوب كردفان، بدأت من الأبيض ثم الدبيبات والدلنج.. ثم مناطق عديدة في بداية الزيارة أذكر منها زيارة مشرقة إلى بلدة سلارا الجميلة آنذاك، ولا أدري كيف هي الآن، ولكنها كانت من المناطق التي زرتها من قبل في أنحاء السودان .. ثم مررنا بمناطق هبيلا وأم برامبيطة ورشاد والعباسية تقلي وأبو جبيهة.. وكل هذه المناطق كانت زاهية بجمال الطبيعة والمزارع .. وأذكر أشجار المانجو في شوارع وسهول أبو جبيهة.. ثم تحركنا بعربات اللاندروفر الانجليزية، حيث أن عربات الدفع الرباعي اليابانية الصنع وأسرة اللاندكروزر لم تكن قد وصلت لبلادنا بعد... ثم تحرك ركبنا بعد لقاء جماهيري كبير واحتفالات رائعة في العباسية تقلي.. وهي مناطق أشعرتنا بأنها مناطق استقرار ورخاء وحضارة راسخة، ومنها تحرك ركبنا إلى كالوقي ثم تلودي بالبر.. وكان الوفد السياسي يتحرك بطائرة هليكوبتر. ٭ وتحركنا من الأبيض.. ومن ثم التأم الوفد في كادوقلي ومكثنا بها عدة أيام، وأذكر أن محافظ جنوب كردفان كان هاشم حسين، ولكن قبل أن تكتمل رحلتنا أو تبلغ نهايتها صدر قرار بالخرطوم بتعيين المرحوم محمود حسيب محافظاً لجنوب كردفان كعادة قرارات الرئيس نميري آنذاك عند نشرة الثالثة عصراً. ٭ وردت هذه الصورة إلى ذاكرتي والحادث المؤلم الذي استشهد فيه نفر كريم من أبناء السودان صبيحة عيد الفطر المبارك.. والذي أحدث رنة حزن عميقة لدى كل أبناء السودان بالداخل والخارج، إلا أولئك الذين لا قلوب لهم ولا يؤمنون بقضاء الله وقدره والشامتين في مثل هذه الابتلاءات العديدة.. فقد ابتلينا من قبل بالعديد من الأحداث والوقائع المماثلة التي أخذت خيارنا من إخواننا وأصدقائنا وأحبائنا، فالفقد هو الفقد سواء على الأرض أو في جوف السماء.. تتعدد الأسباب والموت واحد .. ولا تدري نفس بأية أرض تموت.. ولا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون.. والحادثة كانت مؤلمة جداً، ولكننا عشنا وذقنا الأكثر ألماً باستشهاد نفر كريم عزيز علينا من الأخيار الذين اصطفاهم المولى عزَّ وجلَّ صبيحة العيد، وهم يتركون بيوتهم وأولادهم وعشائرهم لمشاركة أهلنا في تلودي فرحة العيد ونسمات السلام. ٭ ودون أن ننتقص قدر واحد من هؤلاء الشهداء الاعزاء علينا، رأيت أن أقف قليلاً مع بعض الذين عرفتهم حديثاً وتعاملت معهم، وكان اولهم المهندس غازي الصادق، ذلك الرجل الرقيق المهذب البشوش العالم المتواضع، وكان لقاؤنا إبان أزمة هجليج وهو وزير الإعلام، فوجدت فيه رجلاً متواصلاً وحريصاً على أداء مهامه، منهمكاً باستمرار ٍفي عمله بجانب مهمة اللجنة الاعلامية.. وبعد أن كلف بحقيبة وزارة الإرشاد خلال الأزمة الاقتصادية وتداعياتها ظل التواصل بيننا مستمراً.. ودعوناه لإفطار الصحافيين فقام بتلبية الدعوة، ودون التنسيق معه قدمناه لمخاطبة الجمع الصحفي الكبير داخل نادي ضباط القوات المسلحة، فلبى الدعوة وخاطب الصحافيين بإريحية وأفق واسع.. أما زميلنا عبد الحي الربيع فهو إعلامي بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ.. فأنا مستمع جيد للإذاعة، وظللت استمع لصوته الندي الجذاب وتقاريره الثرة المعلومات من كل انحاء البلاد، وكأنه فراشة صحفية تعرف أين الرحيق الذي تنال منها مبتغاها.. فكانت تقاريره سليمة ودقيقة وأسلوبه سلساً وجذاباً.. وكانت آخر علاقته بنا في الاتحاد قيامه بسحب القرعة لمنزل من منازل الصحافيين .. وهو كما يقول الشاعر: «الأذن تعشق قبل العين أحياناً»، فقد أحببت اندفاعه ونشاطه الإعلامي حتى صار اسمه هو السمة او الصورة العالقة في الذهن والفؤاد. ٭ أما الشخصية الثالثة فهو الداعية والأستاذ والإداري الفذ العالم البروفيسور محمد بخيت البشير... ذلك الرجل البشوش المتواضع الذي تقلد عدة مواقع بجامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية، فقد عين مديراً لمركز الطالبات وعميداً لكلية الدراسات العليا وعميداً لكلية القرآن الكريم... وقبل ذلك كان وكيلاً لوزارة الشؤون الدينية والأوقاف.. ثم اختير أخيراً عضواً بمجمع الفقه الاسلامي وخبيراً ورئيساً لمجموعة من الدوائر المتخصصة للمجمع.. وذهب عالمنا الجليل في أفضل خاتمة لمجاهداته في سبيل إرساء قوانين الدين، والذي أحزنني كثيراً أن شيخنا البروفيسور لم يجد من يتعرف عليه شأن الآخرين إلا في وقت متأخر.. ولكن مكانته ومجاهداته وأعماله العظيمة محفوظة عند المولى عزَّ وجلَّ.. نسأل الله أن ينزلهم منازل الشهداء مع النبيين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً. ٭ وكان حزني الأكبر على أخينا محمد الحسن الجعفري الذي عرفته لأول مرة معتمداً لشرق النيل، وكيف كان إيجابياً في تعامله معنا ونحن نضع الخطوات الأولى لمدينة الصحافيين في الوادي الأخضر، ثم تواصله مع الاتحاد وبرامجه بعد أن تم نقله الى معتمدية أمبدة في إصرار وعزم.. وأخيراً قيامه بنفسه بتنظيم السوق الخيري للصحافيين مع الشهيد النشط عبد العظيم الذي لمسنا فيه الحماس والاهتمام بتوفير السلع بالأسعار المخفضة باتحاد الصحافيين حتى تحول شارع الجمهورية الى سوق كبير حصل الصحافيون بموجبه على السلع الضرورية وبالأسعار المدعومة، مع وعد قاطع بالاستمرار في تقديم هذه الخدمة العظيمة لزملائنا الصحافيين وأسرهم، وكأنه أحد أعضاء المكتب التنفيذي للاتحاد.. وهكذا كان فقدنا عظيماً ومصابنا جللاً مع هؤلاء الرجال الذين لم تدم معرفتنا بهم سوى لحظات خاطفة كالبرق في سماء ماطرة.. ولكن عزاؤنا أنهم صاروا خياراً للمولى عزَّ وجلَّ في جوار خير من جوارنا ورفقة خير من رفقتنا.. وعالم سرمدي أفضل من عالمنا هذا دار الفناء. ٭ ودون أن نستثني أحداً من الشهداء الأبرار الذين تركوا منازلهم وأهليهم وأبناءهم وذويهم من خلفهم يوم فرحة العيد ليدخلوا الفرحة في نفوس إخوة أعزاء تعرضوا في جنوب كردفان لمآسٍ حربية وتمرد واعتداءات آثمة ليعيدوا إليهم البسمة.. فهؤلاء جميعاً فقدناهم في لحظات ما بين الصيام والفطر، فحزنا عليهم وفرحنا لهم بنيل الشهادة في ذلك اليوم العظيم.. ونسأل المولى عزَّ وجلَّ أن يتقبلهم ويحسن وفادتهم ويدخلهم الجنة مع النبيين والصديقين وحسن أولئك رفيقاً.. «إنا لله وإنا إليه راجعون».