هل كل الذين نحبهم تسربوا عبر فجوات الزمن، وغابوا كأنهم خيط دخان تصاعد في الفضاء ثم تلاشى، فلا عودة ولا أثر؟ وهل كل الذين رقشنا بهم حياتنا وزيّناها، ذهبوا في الدروب البعيدة لم تبقَ منهم إلا التماعات عنيدة تحاصرها السنون ويطمرها الزمن لكنها تعاند في إباء وتومض في كبرياءٍ لا يعرف الزماع؟ مجموعة مدهشة من الطامحين والمبدعين المثابرين جمعتهم الحياة في شبيبتها وهم في شبابهم الغضّ الجميل، ثم فرقّتهم أيدي سبأ كل في طريق، ولم تبقَ منهم ولا لديهم إلا ذكريات دافئة وأوراق عتيقة ورسائل ودٍّ مثقلة بالحنين والأشجان والأشواق وصور للحظاتٍ مجمّدة من الزمن، وأطياف تروح وتغدو تجتاح الروح كضوء سماوي يتوامض بلا عمر في نفوس ظمأى ودواخل تتكئ على مسلة من نور سامقة تصافح حضن السماء. «ب» في داخلية خاملة الذكر، بمدرسة الضعين الثانوية، مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، جلسنا ذات يوم خريفي والبرق العبادي «يشلع» في الأفق الشرقي الداكن ودوي رعد يهدر من بعيد كصوت طائر الفينيق في الأسطورة الإغريقية القديمة حين يتعالى الطائر وصوته حتى يصل لدرجة الاحتراق ويموت وتتجدد حياته، ليعود أقوى في روحه الجديدة، كأنه يخرج من نار العدم إلى ثلج الخلود. كان البرق والرعد يقتربان ببطء من مباني المدرسة المظلمة التي تحاصرها نباتات الغبيش القصيرة، قرب رهد «أب تقيلة» شرقي المدينة، ولا يشق ظلمة الليل البهيم في تلك اللحظة سوى أنوار باهتة خافتة من مسارج ولمبات الجازولين في عنابر الداخليات الست عشرة القابعة في العراء، وأتت ريح خريف تجري خلف خطى بعض الطلاب العائدين من وسط المدينة يشقون الدروب الرملية الضيقة بين الأعشاب وأشجار الغبيش كأنهم محاربون من العصور الوسطى تسللوا بلا رهبة ولا دليل ونجوا من لدغات الأفاعي الهائمة. «ت» في تلك اللحظة من ساعات الليل، ورائحة الدعاش تختلط برائحة ابتلال عنقريب من عيدان الجميز نسج من جلد البقر أتى به زميل من طلاب الصف الأول قادم من صقع بعيد من دارفور، وكانت معه «بقجة» من الخيش تحتوي على فول سوداني مسلوق، ومسحوق «الخميس طويري الدمسورو» وبعض الزاد القليل الذي بعثته به أمه إلى الداخلية، كان الطلاب في داخلية «مادبو 3» مزيجاً غريباً وتلاقحاً فريداً، بعضهم من الضعين وضواحيها وثلة من نيالا والفاشر وكاس وزالنجي والجنينة، وبعض من بابنوسة ودار مسيرية ودار حمر، وطالب من أبو زبد، وطالب آخر من أبو خضرة بجنوب النيل الأبيض، وطلاب من جنوب السودان من رمبيك ومناطق بحر الغزال، تتداخل الأمزجة وتتوه في بعضها كقطع الليل الذي أرخى سدوله، ارتفع في تلك الساعة صوت الطالب زين العابدين وهو من أبناء أبو زبد بغناء جميل رددت صداه جدران الداخليات المظلمة وكأنه لم يحفظ في الدنيا إلا أغنيات وردي والطيب عبد الله، في ذات الساعة التي كانت مجموعة من الكلاب التائهة تتسابق بين العنابر ونباحها الجنوني كأنه هيج الرعود الداوية.. ثم شقّ عرض السماء برق مخيف!! «ث» كان صديقنا إسماعيل حسن موسى «كايا»، مستلقياً على سريره غارقاً في تهويماته السحرية يحلم بصوته الجهير وهو يحب أنه يرى الغد البعيد دانياً لكنه يؤكد في سأم: «مستقبلنا لا يختلف عن هذه الليلة الظلماء وعن هذه الريح الضالة»!! وقاطعه «حسين آدم إدريس ذاتوو» وهو ممسك بنافذة العنبر الحديدية: «لا تخرِّج هذه البيئة إلا أشباه الفاشلين»!! لكن «حسين زالنجي» الطالب المثابر تعلّق بحكمة جده المعمِّر عند سفح جبل مرة وقال: «لا ينفع الإبل الجرباء إلا القطران الأسود»!! قالها ثم رطن برطانة أهله الفور، وضحك ضحكته البيضاء الصافية.. وتأوه من بعيد بكل قلقه المعذّب أحمد الدليل كأنه رجع مائة سنة وتقمّص روح سلفه في منطقة «تُلُس» وقال بسخرية طازجة: «سنتعفن بوصفنا طلاباً بلا غد ولا أمل في هذه المدرسة الملعونة»!! سمعنا صوت أقدام الطالب «أبو بكر شرشر» في الممر المبلوط بالأسمنت، ثم أطلّ علينا بكلماته المرة عندما وجدنا نردد أبياتاً من الشعر: «قايلين الشعر والمطارحات الشعرية دي بتأكلكم عيش؟» ألقاها هكذا ثم أوقد في عتمة العنبر شريط السراج المبلول بالجازولين ذي الرائحة الكريهة وقربه من صفيحة قرب الحائط، فتسوّد في لحظة الجدار الناصع البياض وطفق يذاكر دروسه في تصميم غريب. «ج» كان ثمة رابط عجيب بين هؤلاء الطلاب الذين لا يخشون مواجهة حقيقة بسيطة وقاسية، هي أن الزمن والقدر الذي قذف بهم ليتعلموا في مثل هذه الظروف القاسية لن يذكرهم ولم يرحمهم ولن يتيح لهم فرصة للتقدُّم بوصة واحدة. كانت المدرسة ملقاة بمبانيها في العراء بلا سور ولا حدود، تغوص مبانيها في الرمل، وتقع في الجانب الشرقي من مدينة الضعين، على مسافة كيلومتر ونصف الكيلومتر تقريباً من آخر الأحياء الطرفية، يديرها في تلك الأيام الأستاذ الكبير «الضو محمد الضو» الذي عُين لها خصيصاً بعد أن أغلقت قبله بعد إضراب عنيف وشهير للطلاب وتوقفت الدراسة لسنتين، واختيرالأستاذ الضو في تحدٍ ليعيد فتحها.. المباني حتى تلك اللحظة غير مكتملة، وفي الجانب الغربي في وسط الداخليات توجد حجرة طعام «السُّفرة» وهي غير مكتملة البناء، والمطبخ الضخم بلا أبواب، ويتم توزيع الوجبات على الطلاب عبر نوافذ واسعة في المطبخ، وتشرف لجنة من الطلاب على توزيع الطعام، ويعتلي طالب حجراً ملتصقاً بالنافذة من الداخل لينادي المجموعات بأسماء العنابر، ليوِّزع عليهم عند الغداء أو العشاء عدداً من الصحون الجديدةالبيضاء تحتوي على إدام سُمي «البوتاش» وهو طبيخ متجمِّد مكون من خضروات سيئة الطبخ إما قطع من القرع أو البطاطس أو الفاصوليا البيضاء، وبعض أرغفة مستديرة من القمح الأسمر، ويتوزع الطلاب في مجموعات ودوائر في الفضاء الرملي العريض، تتعالى همهماتهم وضحكاتهم، وبعد العشاء يتجمّع عدد من الطلاب الجنوبيين وبعض أبناء نيالا يرددون وهم متحلِّقون في دائرة وبشكل صوفي أغنيات لبوب مارلي تتخللها رقصة مضحكة من زميلنا «محمد الزين مصطفى ملح» الذي لم يكن لينتظر فتوى من ياسر السيد مدني الطالب الأكثر ثقافة والتزاماً وعلماً أو محمد دنكس بسخريته المحببة وتعليقاته اللطيفة. «ح» كان القطار القادم من الخرطوم إلى نيالا وبالعكس، يمر بالقرب من المدرسة، وكلما مرَّ القطار الذي تجره القاطرة من نوع «هيتاشي» يطلق السائق صوت صافرة القطار الطويلة العميقة كأنها تخرج من جوف النار، وعندما يكون اليوم هو الخميس، يتسلل بعض الطلاب لمحطة السكك الحديدية للذهاب بالقطار لنيالا والعودة بعد اثنتي عشرة ساعة عندما يكون القطار عائداً في طريقه الطويل للخرطوم، وبعضهم عندما يذهب لنيالا التي يصلها القطار عصراً قاطعاً المسافة إليها من الضعين في ست ساعات، يدخلون السينما ويزورون أهليهم ثم يرجعون «مسطحين» على ظهر القطار وقد حملوا معهم بعض الزاد من أسرهم والمصاريف لزملائهم من أبناء المدينة. كانت المدرسة بلا نظام، سوى اليوم الدراسي في الفصول، كنّا ما أن تغرب الشمس حتى تمتلئ الطرقات المؤدية لسوق المدينة زرافات ووحداناً من الطلاب، نتجمع في السوق الذي كانت مطاعمه ومقاهيه تفتح ليلاً، وتأتي عربات «أم دورور» من الأسواق الخارجية في ضواحي الضعين، وكانت بائعات الشاي اللائي يحملن في وجوههن حسن البداوة «وفي البداوة حسن غير مجلوب..» يفضلن نكات وظرافة طلاب المدرسة الثانوية، ولا يعود الطلاب إلا عند منتصف الليل بعد العبث البرىء في السوق الليلي المائج المائس. «خ» آمال أهل الطلاب المعلقة في الهواء، كانت مهيضة الجناح، بواقع المدرسة تلك، لا بارقة أمل على الإطلاق تدل على أن هناك حياة طلابية وبيئة دراسية تجعل من الآمال حقائق زاهرة ونابضة، كان هناك ثلاثة معلمين من جمهورية مصر ومعلم لغة إنجليزية بريطاني الجنسية لطيف ونزق، لم يستفد من السودان والمدرسة والطلاب، سوى أن بعض المارقين من طلبة المدرسة علموه شرب «العرقي المر» الذي يستجلبونه في مغامرات مذهلة من داخل المدينة، وكان هناك بعض المعلمين الأفذاذ الذين يكابدون الظروف ويتحدون الزمن بطلابهم، وكانوا يحترقون كالشموع خشية أن تظهر نتيجة امتحانات الشهادة السودانية وتكون للمدرسة علامة كبيرة بأنه لم ينجح أحد. في تلك الساعة من لحظات الليل التي علا فيها هزيم الرعد ودلق البرق ضوءه الخاطف على وجوه الطلاب الأغرار، كنا نرنو شرقاً حيث كان ضوء القطار يلوح في الجانب الشرقي من بعيد، كانت «دار صباح» والخرطوم تعني لنا كل شيء، المستقبل، التعليم والغد الجميل، وتراءى لنا مع أنوار القطار رغد العيش الذي فيه طلاب المدن الكبيرة وحلاوة العيش في العاصمة وطلاوته، وتمتع أهلها وطلابها بكل الخدمات وأساسيات الحياة، كان الدمع يطفر إما فرحاً أو تحسراً من أعين بعض الطلاب الذين يواجهون الضياع والعدم، البعض الآخر يقف صامداً أمام غلظة الحياة. في تلك اللحظة من ساعات الليل بدأ يتكون إما إصرار على الحفر بالأظافر أو الموت تحت رحمة قطار الحياة، وربما توالدت بذرة السأم والشك والظن والمقت لهيمنة المركز على الهامش، وتدفقت اللعنات وعلّق البعض الإخفاق على مشجب دار صباح النحيل.. لكن كل الذي أذكره في تلك اللحظة أن ضوءاً سماوياً في لون التراب كان يجتاح دواخلنا الخاوية ويرسم فيها الإصرار العجيب على المكابدة.. لتمضي الأيام وتدور عجلات الزمن فإذا بتلك الثلة من الطلاب الملقين على قارعة دروب الحياة وفي لجة أشجار الغبيش وبين الأفاعي الرملية السامة والإهمال الحكومي، يتحولون إلى أطباء ومهندسين ومعلمين وتجار ورجال أعمال وجنود وصحافيين وقطاع طرق ومتمردين ومغفلين وشذاذ آفاق.. لأنها هكذا.. هي الحياة!!