بالرغم من أنني أعلم أن الباص الذي نركبه في رحلتنا من مدينة ود مدني إلى الخرطوم سينطلق في تمام الخامسة وأن المسافة هذه سيقطعها الباص في ثلاث ساعات إلا ثلثاً لا تنتهي حتى يحين إفطارنا الرمضاني قبل نهاية الرحلة، إلا أن إحساساً بالطمأنينة جعلني أغط في نوم عميق على وسادة كرسي الباص السياحي المكندش الذي أعلم أنه لا يحمل على ظهره أي زاد يخص الصائمين في شهر رمضان المعظم. مرت أكثر من ساعتين من عمر الزمن دون أن أشعر بها، حتى أيقظني شاب بهدوء طالباً مني النزول من الباص لتناول وجبة الإفطار فنزلت فإذا بباصنا هو أحد خمس عشرة مركبة يتم إيقافها لوجبة الإفطار لنجد أنفسنا أمام مائدة ضخمة وسعتنا نحن أكثر من ثلاثمائة صائم ورغم هذا العدد الضخم فإن القائمين بأمر المائدة يحرصون على إيصال كل فرد إلى موقع المائدة وكأنهم أهل عرس يحرصون على التأكد من استضافة كل ضيف لهم على حدة ليخرج منهم بعد الوليمة بانطباع طيب!. ومن عجب أن المائدة التي هبطنا فيها كانت تحوي ما لذ وطاب من الأطعمة الرمضانية الشهية والعصائر المصنوعة بالفاكهة الطازجة ولم ينسوا النشا والشوربات والسلطات وقد كانوا يطوفون على كل مجموعة يحثونهم على الأكل ويوفرون لهم ما نقص منه، ومنهم من ما زال يقف على حافة الشارع يستقبل العربات المارّة لينزلها إلى المائدة التي ما يزال فيها سعة للعشرات والعشرات، أكلنا والله وشبعنا وصلينا ودعونا لأهل المائدة بالبركة بعد أن تركنا باقي الإفطار ليجمعوه في نظام اعتادوا عليه من أول الشهر. أعود وأقول إن ما دفعني للنوم بدرجة كبيرة من الطمأنينة من مدينة ود مدني للخرطوم، هو ما حدث في رحلة الذهاب إلى ود مدني في شهر رمضان نفسه حيث أُوقفنا في مدينة الكاملين لنُستضاف في مائدة مثل مائدة جياد وإن كنا نتوقع أن يحين الإفطار في مدينة الكاملين وننزل ونشتري إفطارنا بأنفسنا من المطاعم ولكن عادت دراهمنا إلى جيوبنا سالمة غانمة. في الحقيقة ساقتني الشجون لأسائل نفسي عمن يقوم بهذه الموائد؟. فأجيب نفسي: عشرات أو مئات من مواطني القرى المطلة على شارع الأسفلت على طول الطريق من مدني للخرطوم وربما يكون هذا في كل طرق السودان وتساؤل آخر يقفز إلى ذهني (منذ متى؟) والإجابة تقفز أيضاً: أنه إرث قديم ربما من الآباء عن الأجداد ويقفز السؤال الثالث (هل الذين يقدمون هذا أغنياء أم هم من الفقراء) وتأتي الإجابة ربما يكونون أغنياء أو ربما يكونون من عامة الناس، المهم في الأمر أنه وقف دائم. أخلص في الأمر إلى أننا نحمل إرثاً سنياً غالياً هو الوقف في مشروع إفطار الصائم في رمضان مستندين إلى الحديث الشريف (عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من فطر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً). أخرجه أحمد، وحديث عبد الله بن سلام الذي صححه الألباني (أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام)، وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو ذر (في كل كبد رطب أجر)، والآية من سورة الدهر (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً)، ولا أشك في أن الله يوسع في الرزق على أصحاب النية في هذا النوع من الوقف حتى يتمكنوا من إنجاز هذا الأمر كل عام أليس الله هو القائل في سورة البقرة (يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم) «276» والقائل أيضاً في سورة البقرة (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون). صدق الله العظيم. ورغم الثناء العاطر على الوقف في رمضان فإن الدعوة تتوجب لإرشاد أناس كثر للوقف في سائر الشهور لصالح أسر الأيتام في معاشهم وتعليمهم، لصالح أصحاب الأمراض المستديمة من الفقراء الذين لا يجدون ثمن بخاخ الأكسجين أو حبوب ضغط الدم أو لصالح المعاقين المعوزين والأسر المتعففة فهل من مجيب.. ونقول لهم ما أنفقتم من شيء فهو يخلفه...