وهي طعام الجميع المبارك.. إذ يقول الشاهد المبارك (بارك الله في طعام كثرت فيه الأيادي)، وهي كذلك سمة تميزت بها الجماعات المسلمة حول فجاج الأرض.. وعندنا هنا في سوداننا الحاني أنشئت لهذه الجلسات المرتكزة.. أنشئت صالونات الضيافة والطعام وأنشئ لها (الضرا)، وأقيمت لها (السفرة) وصفت لها (الأقداح) و(المندولة)، وجعلت لها مراسم الخدمات(يا علي سم الله وكل مما يليك)، ورتب كيف يضعون الطعام، وكيف يغسلون الأيدي قبل وبعد الطعام.. وماذا يقول مبتدر(اللقمة)- بسم الله - ويأكل بثلاثة أصابع الأمامية.. ويأكل مما يليه- كما وجه على (ر) من قبل الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ولا يمادد يده ليأخذ من أمام صاحبه الآخر.. والأصغر دائماً يخدم الآخرين.. ولا يبتدر هو الأكل قبلهم.. ويمسك هو بالإناء أو يبسط (الترابيز) والمقاعد والكراسي.. إن كانوا على ارتفاعات.. وإلا جلسوا (القرفصاء) كما يجلس ( العبد المخلوق) لخالقه.. فالنظام والنظافة والذوق الرفيع، حيث لا ينظر أحد أبداً إلى (لقمة) غيره حين يرفعها (لفمه).. ونكتفي في هذه الأدبيات والمراسم بدليل الفقه والمأكل، حيث يقول (خير اللحم ما جاور العظم)، ونقول كما قالت خبيرة الأغذية بشمبات بروفيسور: (ست النفر)- العصيدة بملاح التقلية غذاء كامل)، فهنا إذن قد فتحت شهية كل منكم والساعة (السابعة وسبع دقائق) لإفطار رمضان لم تحن بعد.. ولكن دعونا نؤصل لمائدتنا.. وهل نحن بمجالس الإفطارات المنداحة.. هل نحن الذين ابتدرنا المصطلح الاجتماعي الجماعي هذا (المائدة).. بل أنزل من رب السماء.. أنزلت سورة كاملة بها (120) آية، وجاءت (الخامسة) في ترتيب سور القرآن المجيد، سميت (المائدة) بعد (النساء) كأن هناك إيحاء أن (الموائد) هي إيماء لصنع النساء.. وهنا يقول الله تعالى في الآية (111) (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا وأشهد بأننا مسلمون) -يعني مسلمون عديل- ثم تمضي الآيات فتقول:(إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمين)، (قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا، ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين)، (قال عيسى بن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وأرزقنا وأنت خير الرازقين)، (قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين).. وهذا كله وحي مقدس يصوب أفهام الناس أن (المائدة) هي طعام الجماعة.. وهو الطعام المبارك وهي الدلالة أن البركة في (الأكل) مجتمعين لا فرادى كل يمسك بماعونه.. وقد يأكل واقفاً.. وقد يلتهم طعامه التهاماً ليس بموجهات (المراسم) الأولى.. والأدب وقواعد الاشباع من الطعام الهادئ الهنئ.. وأن يطبق النظرية النبوية الثلاثية (ثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه)، و(ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه)، كما اثبت المصطفى(صلى الله عليه وسلم).. فلا يدفسها (أي بطنه) حتى يصعب عليه التنفس أحياناً.. وحتى تغلبه حركات الرياضة ليكون قوياً.. كما هو مطلوب في الفتى أو المرء المسلم.. ولقد ذكرت لكم يوماً أن النظام وابتدار الطعام قد قاد أمة كاملة(يملكها) للإسلام، وذلك حين استدعى سلطان (الفور) - داوخورشيد- أستدعى زعيم (العرب) الداخلين لتوهم (بإبلهم) إلى شمال (الفاشر).. فحين أتاه الزعيم العربي المسلم.. اتفق معه بعد تحاور أن يأتيه كل فينة وأخرى في (قصره) على سطح الجبل.. للضبط والنظام ثم لاحظ ( السلطان) وهو غير مسلم -وقتها- لاحظ أن جنود الزعيم يجلسون (حلقات) ويبدأون بكلمة عند الطعام هي (بسم الله)، ثم ينصرفون كل لوجهته بعد الطعام مطمئنين.. بخلاف جنوده هو-(السلطان)- إذ يتعاركون ويتخاطفون الطعام.. ولا يكتفي أحدهم بما يليه.. فأمر (السلطان) جنوده أن يجلسوا حلقات كما يجلس هؤلاء.. وأن يقولوا (بسم الله) ففعلوا ذلك.. فاكتفوا من الطعام و(شبعوا)، فكان ذلك طريقاً لهم جميعاً (بسلطانهم) لاعتناق الإسلام.. ثم تزاوجوا (عرباً وفوراً) فكانت الممالك الدارفورية المسلمة.. والتي رجعت تكسو (كعبتها) المشرفة.. ويحفر السلطان (علي دينار) (آباراً) للمياه بين (مكة) و (المدينة) سميت بآبار (علي)، تمرون أنتم عليها عند حجكم كل عام.. فكان هذا هو ناتج (موائد) الطعام مثلما أسلم (الحواريون) أسلم كذلك (هؤلاء).. وهذه الموائد أفخم وأنفع ما تكون في شهر التوبة والغفران (رمضان)، وتعزز أدبيات وكرم السودانيين أينما وجدوا.. وهي- (أي الموائد) تعلم الناس الصبر والنظام، وعدم التكلف والتكاتف والتنافس في استقبال الأضياف بغير خوف أو عنت.. وتتنوع المواعين والأغطية والمذاق.. وكان الناس جميعهم في انتظار (أذان) المغرب.. أذان الإفطار.. ويشعر كل في دخيلة نفسه أنه مثلما قال (اللهم لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا فتقبل منا وأغفر لنا) هو يشعر أيضاً أن (طعامه) و(شرابه) و (أوانيه) قد توزعت بين الناس، فكأنه (وحتماً) تربع تحت شجرة الحديث الشريف (من فطر صائماً له أجره -كاملاً- دون أن ينقص من أجره شئ) - أي أجر الفاطر- وقد داهمتنا يوماً ساعة الإفطار غرب الفاشر في إدارية (كبكابية)، ونحن رتل من (عشر) سيارات فداهمنا نحن بدورنا الموائد المتجاورة، فاصطفت أمامنا ونحن جلوس (أم جنقر) و(المندولات)، حيث اكتشفنا في بعضها داخل العصيدة (براد) الشاي الأبيض النظيف.. ولم نحتج إلا (لكبايات) لنشرب (شاياً) موزوناً معتقاً.. وكان هذا اكتشاف كنز.. يسر (الميرم) وأخواتها الأخريات، ولا يوجد رجل بمدينة أو قرية أو فريق.. يأكل أو يفطر عند (الأذان) داخل بيته أبداً.. فهذه الموائد الممتدة هي إرث تكاتفي (تعبدي)- فإن قال أحدم هذه (الموائد) والحلقات سيأتي عليها يوم لا تجد متسعاً ليجلس (الجيرة) أو القوم عليه.. نقول لهم هناك تجارب ومشاهد في مناسبات أخرى.. كموسم الحج الذي تكتظ وتمتلئ فيه ما يسمى (بالعمائر)، فليجتمع الناس وليخصصوا غرفاً بعينها لتكون موقعاً للقاءات وللوجبات ولاستقبال الزائرين والمتفقدين، وآخرون لهم سطوح فوق (عمائرهم) للندوات واللقاءات، فإن وجدت ( النية) القاصدة جعلت هذه المواقع في (رمضان) (موائد رحمانية) للافطارت، وحفظ التوحد النفسي.. وآخرون يتولون قيام حلقات إفطار يشرفون عليها بأنفسهم، فيترصدها أهل البر والإحسان ويساهمون فيها (نقداً) و(عيناً)، كما يفعل اليوم الأخ علي هرون الخليفة صاحب مركز أفطار ( ببحري) السينما.. وهذا شبيه بتداعيات حلقات الإفطار والإهداءات في (المدينة) المنورة.. دون منٍ أو أذى، وكلما تعمقت وتنوعت خيارات (البر) و(الإحسان) سمت النفوس وتعلقت بالثريا.. فاللهم آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً.