من الانتقادات الراتبة لحكومة الإنقاذ أو الوحدة الوطنية كيفما شئت استمرار بقاء وجوه زهاء الربع قرن من الزمان، حتى شاع وصف تلك الزمرة ب «المكنكشين»، وفي مناخ كهذا تسطع من حين لآخر وكما البرق أخبار عن استقالة هنا أو هناك، تسعي الصحافة للتنقيب عن خباياها وأسرارها، وتنطلق الأقلام مؤيدة لها، وأخرى تدعو بعدم قبولها إلى أن ينجلي غبارها بالقبول أو الرفض، وبينما تأخذ الاستقالات طابع الندرة لدينا تبدو أدبًا شائعًا في الديمقراطيات العريقة في الغرب أو الشرق. المتابع لأمر هذه الاستقالات يجدها تتمايز في أسبابها ودوافعها، فأحدث هذه الاستقالات تلك التي يمكن تصنيفها في إطار تحمل المسؤولية تجاه قصور أو خلل ما فيما يلي المستقيل من مسؤوليات على شاكلة التي تقدم بها مدير الطيران المدني محمد عبد العزيز مؤخرًا على خلفية تحطم طائرة «الانتنوف» بتلودي صبيحة عيد الفطر المبارك التي تقل وفد رئاسيًا في مقدمته وزير الإرشاد والأوقاف غازي الصادق عبد الرحيم، وقد راح ضحيتها «26» من المسؤولين فضلاً عن أفراد طاقمها وقد تصدر خبر الاستقالة «مانشيتات الصحف» ومالبثت الصحف نفسها أن أخبرت عن رفض الرئيس للاستقالة ومطالبته لعبد العزيز بالاستمرار في أداء مهامه، وفي الإطار نفسه جاءت استقالة وزير الصناعة عثمان عبد الوهاب إثر أزمة مصنع سكر النيل الأبيض الذي تأهب الرئيس وضيوف من خارج البلاد لافتتاحه لدرجة توزيع رقاع دعوات الافتتاح لتأتي استقالة الوزير مدوية جراء فشل مزاولة المصنع لعمله لأسباب تقنية، وعلى ذات النسق رفضت الاستقالة. وعلى النقيض مما سبق تعمل السلطة التنفيذية وعلى رأسها رئيس الجمهورية سيف الإقالة متى ما لاحت بوادر سخط الرئيس من أوضاع بعينها ولعل أوضح مثال على ذلك ما جرى في وزارة الصحة الاتحادية التي لم تكن تحتمل بصفتها الخدمية الحيوية تلك الصراعات التي احتدمت بين وكيل الوزارة كمال عبد القادر ووزير الدولة حسب الرسول بابكر، لينتقل النزاع إلى واجهات الصحف السيارة، وعلى وتيرة مشابهة كان القرار الرئاسي المزدوج الذي وضع حدًا للخلاف الذي نشب بين وزير الإعلام عبد الله مسار ووزيرة الدولة سناء حمد بشأن وكالة الأنباء «سونا» وذلك بقبول استقالة مسار، وفي نفس الوقت اقالة سناء، ولعل استقالة مسار الغاضبة كانت في إطار المناورة باعتباره حزبًا حليفًا للحكومة في وقت تتناوشها أحزاب المعارضة لإسقاطها، ويتكالب أعداؤها بالخارج ضدها، إلا أن الرئيس قبل الاستقالة وبموازاتها أقال سناء حتى لا يشيع أن الوطني يبعد حلفائه لحساب لكوادره، أما استقالة وزير الزراعة عبد الحليم المتعافي التي عدل عنها بالأمس الأول فيمكن إدراجها في دائرة الغضب، إذ أن قرار الرئيس القاضي بإعفاء كل المتعاقدين من الخبراء الذين وصلوا سن المعاش شمل رجلاً مقربًا من المتعافي مدير وقاية النباتات خضر مما دفعه لإعادة تعيينه، وفي المقابل أصدر الرئيس قرارًا آخرًا بإعفاء خضر. وثمة أسباب أخرى للاستقالة مردها أسباب شخصية كما استقالة عدد من المدعين لدارفور منهم عبد الدائم زمراوي وبشأن المتعافي وعبد العزيز أبدى رئيس تحرير الزميلة الغراء«الصحافة» النور أحمد النور في زاويته «حروف ونقاط» شكوكه بشأن جدية استقالة الثاني، بالنظر إلى توقيتها وطريقة توقيتها، وقد شاطره الراي نفسه الكاتب ب «الإنتباهة» إسحق أحمد فضل الله في زاويته، وذهب لمخالفة أنباء الصحف بأن البشير قد رفض استقالته، ولم يخفِ النور حيرته من عدم البت في استقالة المتعافي سواء بالقبول أو الرفض رغم أنه قدمها في منتصف رمضان الماضي، يذكر بشأن المتعافي ومسار أن استقالتهما جاءت على خلفية اصطدام قراراتهما باختصاصات رئيس الجمهورية، ومن أنباء الاستقالات التي تأخذ طابع الإقالة كحالة خلع الرئيس المصري حسني مبارك والتي تم تجميلها بكلمة «تنحي» جاءت استقالة والي القضارف كرم الله عباس الشيخ، الذي شكل خميرة عكننة للمركز، على نحو لا يمكن تجاوزه، فالرجل تعرّض في بعض حديثه للرئيس وتدخل في شأن العلاقات مع إسرائيل، وانتهى بحل حكومته. وفي شأن الأحزاب الحليفة نفسها بعد أن راج الحديث عن استقالة وزير الموارد البشرية عابدين شريف ليفسح المجال لحزبه لترشيح من يختاره في الحكومة الجديدة خص الوزير «الإنتباهة» بأنه لم يستقل طواعية إنما تم إجباره على ذلك من قبل حزبه. أولى الملاحظات التي أبداها أستاذ العلوم السياسية المعروف بروفيسور علي الساعوري هي وصفه للاستقالات بالظاهرة الجديدة التي تستحق الدراسة والمراجعة ذلك أن قادة الإنقاذ ومسؤوليها لم «يعودوا العامة» على الاستقالة من مواقعهم، بل السائد طيلة عهد الإنقاذ هي إعفاء المسؤول المعني من منصبه، حديثًا أخذت الاستقالات تأتي من هنا وهناك دون أن يعلن المسؤول عن أسبابها كما في حالة وزير الزراعة عبد الحليم المتعافي، وإن كانت أسباب وزير الإعلام مسار معلومة وفقًا لمجريات الأحداث المتعلقة بها آنذاك، وفي تفسيره لظاهرة الاستقالات يشير الساعوري في حديثه ل «الإنتباهة» لثلاثة أسباب هي: الشعور بالتقصير تجاه المسؤولية الموكلة إليه، والاحتجاج لاختلاف السياسات في المؤسسة أو الوزارة التي يديرها وأخيرًا الاستقالة لأسباب شخصية، وفي السياق نفسه يذهب النور أحمد النور إلى دمغ تلك الاستقالات بأنها مسرحية سيئة الإخراج والحبكة، وبالعودة للساعوري فهو يختم حديثه بإشارة مهمة مفادها أن الاستقالات المشار إليها لا تمت بصلة بإجراءات محاسبية في المجلس الوطني أو حتى انتقادات، ولعل هذه الملاحظة تقودنا لإفادة رئيس كتلة الوطني بالمجلس غازي صلاح الدين في حوار له: «إن المجلس الوطني يتحرك في المساحة المتاحة له» ويعزز من ذلك الاتجاه تفضيل الحزب الحاكم لمحاسبة عضويته في الحكومة داخل الأطر الحزبية، كما قال رئيس البرلمان أحمد الطاهر في حوار منشور. إذن تبدو تلك الاستقالات سواء في إطار الوطني أو غيره من الأحزاب تدور في فلك آخر غير المؤسسية أو الالتزام الأخلاقي المتبع لدواعي الاستقالة.