ما يدور داخل حزب الأمة القومي هذه الأيام محزن للغاية بتصاعد صراعات الأجنحة المتطاحنة منذ فترة، التي تصرُّ على إنهاء احترابها بالضربة القاضية، وقد تراكمت الأخطاء الكثيرة، حتى أدت في النهاية لبلوغ نقطة اللا عودة بين الإخوة الفرقاء المتشاكسين.. ولم تعصم أي سابقة سبق وصدق من استخدام مَن بيده سلطة القرار في الحزب، من رمي البعض خارج المكتب السياسي وتهميش دورهم توطئة لإلقائهم خارج الحظيرة والتخلُّص منهم بجرة قلم. وأشدُّ ما هو جالب للشفقة أن ترتيبات تجرى وربما هي الحقيقة الوحيدة داخل حزب الأمة القومي، لعملية توريث لقيادة الحزب، حيث يشعر السيد الصادق المهدي أن الوقت قد حان لإزالة كل العوائق التي تحول دون تقدُّم وريثه المحتمل، وهو أحد أبنائه بالطبع لتولي قيادة الحزب، فالسيد يريد توضيب عملية الانتقال المحتملة بسلاسة وأن تظلَّ رايتها داخل البيت المهدوي الذي طالما تحدث أفراده عن الديمقراطية والاحتكام لقواعدها. ويبدو أن البعض من الحرس القديم ومن يدور في مداراتهم الناقدة لما آل إليه حال الحزب وسوء تقديرات قيادته وترددها، قد شعر بما يكفي من إحساس بضياع هذا التراث الوطني الكبير لحزب ظل منذ نشأته في الساحة فاعلاً ومتفاعلاً معها، ثم ذبل في النهاية كوردة شوكية في الصحراء القاحلة. ولا يتمنى عاقل أن يدخل حزب الأمة القومي برجليه لوحول لزجة من الانشطارات الأميبية، ويدمي جسده من جديد بنصال الخلافات والانشقاقات والضربات المميتة.. فلقد صار الكيان الأنصاري ممزقاً وتماسك الحزب الكبير مهتكاً كخرقة ناوشتها الرياح ولا أمل في أن يمسك الدفة من يعيد هذا الحزب لبرٍّ آمن .!! الأمير كمبال.. في هدوء رحل كما النسمة المسافرة، بالعاصمة التركية أنقرة التي ذهب إليها طلباً للعافية والشفاء، أحد أبرز قيادات البلاد من جنوب كردفان، الأمير عبد الرحمن كمبال أمير قبيلة أولاد حميد، ونائب الوالي ووزير المالية الأسبق بولاية جنوب كردفان الذي تولى عدداً من المواقع الدستورية في عدد من الولايات في غرب السودان ووسطه، وبرحيل هذا الرجل تفقد كردفان، بل السودان كله ، أحد حكمائه ورجاله المخلصين، لما عُرِف عن الأمير كمبال من خلق رفيع وأدب جمٍّ وقلب يسع الناس جميعاً وقيادي صاحب نظرة ثاقبة ودأب وتفانٍ لا مثيل له في كل عمل قام به أو مهمة اضطلع بإنجازها. وشهدت منابر وأحداث ومواقع كثيرة لعبد الرحمن كمبال صولات وجولات ومواطن تجلّت فيها الحكمة والتريُّث وطول البال واحتمال الناس وتجاوز الأذى والمرارات، وظل كمبال دائماً كما عرفناه فوق حظوظ النفس في مقام السمو، فقد كانت أخلاقه ونهجه في الحياة ينبض بأصالة البدوي القُح والمؤمن المحتسب، يبذل كل ما عنده ويجود بنفسه من أجل الآخرين، لم يسمع منه أحد طيلة حياته كلمة جارحة أو غل ولم يركن لشح النفس ولم تفارق وجهه البشوش ابتسامته التي كانت ميزته بين العالمين. كان نصوحاً ذا صبر، وودودًا يخفُّ عند الحاجة إليه ولهوفاً إذا أستغيث، ولذلك شيّعه أمس في الخرطوم الآلاف من إخوته من أبناء السودان قاطبة من كل صقع وركن وبكاه كل من عرفه، فقد ذهب إلى ربه وقلبه الكبير ينضح بالحمد والرضى والرجاء، وسافرت روحه إلى بارئها راضية مرضية، وهو بين يدي ربه، عفيف اللسان عاش مسماح القلب والفؤاد.. رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه في جناته العلا وأقعده مقعد صدق عند عزيز مقتدر.