الأستاذ أحمد المصطفى صاحب عمود استفهامات بهذه الصحيفة كان زميلاً لنا في السبعينيات من القرن الماضي بجامعة الخرطوم.. وعلى الرغم من أنه صحفي الآن وكاتب معروف إلا أنه «زمان» كان متخصصاً في علوم الرياضيات والفيزياء بينما كنا طلاباً بكلية الزراعة.. وتخصصه في الفيزياء هذا جعل منه أستاذاً لهذه المادة بالمملكة العربية السعودية إلى أن «إتمسخ» بعد عودته وصار كاتباً صحفياً.. وفي عموده أمس أورد أحمد مقالاً كتبه البروفيسور الفيزيائي المشهور جداً محمد حسن سنادة الذي كان على أيامنا أستاذاً للفيزياء بجامعة الخرطوم ثم عمل مديراً لجامعة نهر النيل لاحقاً وبهذه المناسبة فإن بروف سنادة كان قد علَّم «ناس أحمد» عندما كانوا طلاباً طريقة تجهيز إذاعة محلية بالجامعة.. وعندما قام الطلاب بجامعة الخرطوم بأحداث شعبان المشهورة كانت مجموعة «ناس أحمد» هي المسؤولة عن تشغيل الإذاعة المحلية على موجات إف إم من كلية التربية بجامعة الخرطوم التي ساعدت كثيراً في نجاح الثورة أو التمرد الذي قاده الطلاب في ذلك الوقت «وعلى فكرة معظمهم حكام اليوم».. والبروف سنادة في مقاله ذكر واقعة مهمة جداً لا بد من الانتباه إليها وقد كان بطلها أستاذ التربية الأمريكي «الأبيض» والذي كان قد قضى فترة من حياته العملية في الجنوب فقد جمع إليه معظم الطلاب الشماليين ونصحهم بالحرف الواحد ذاكراً لهم أن الجنوبيين من قبيلة الدينكا بصفة خاصة لا توجد في لغتهم كلمة شكراً.. ولا يوجد ما يقابل مفهوم رد الجميل أو الاعتراف به أو الشكر عليه.. والأستاذ الأمريكي كان يحذر طلابه الشماليين بأنهم أمام خطر عظيم من مثل هذه الثقافة.. وبالطبع كان التفسير لغياب كلمة شكراً عند الدينكا يرجع إلى طبيعة الحياة والبيئة المليئة بالحيوانات المفترسة وقساوة الغابة حيث إن الناس «تخطف» رزقها من بين فك الأسد وبراثنه.. والحيوانات في الغابة تنتظر الأسد والنمر واللبوة حتى يأكلوا ثم تأتي الثعالب والحيوانات فتخطف ما يتبقى وتجري به دون أن تقول شكراً.. على أنه يجدر أن نذكر أن بعض الحيوانات قد تبدي بعض مظاهر الشكر والعرفان التي قد تحل محل اللغة إذا قدمت لها شيئاً من الطعام مثل الكلب الذي قد يهز ذنبه معبراً عن الشكر والتقدير أو القط الذي يحرك ذيله أو حتى الحمار الذي «يهنِّق» إذا وضعت أمامه القش وبقايا النباتات وربما أن الكثيرين من أهلنا في الشمال يستغربون عن سلوك القبائل الجنوبية في علاقتها مع الشمال التي امتدت لستين عاماً ظل فيها الجنوبيون يعيشون عالة وطفيليين على الشمال ولم يستفِد الشمال من الجنوب ولا «تكلة» ومع ذلك يصوت الجنوبيون كلهم وبمعدل «99.9%» للانفصال الذي سموه استقلالاً ويستلموا بلاداً معمرة بالبنيات الأساسية وبها آبار البترول المنتجة ومع ذلك فالجنوبيون لا يقولون شكراً بل يعضون الأيدي التي امتدت لإطعامهم.. وقد لا يفهم أهلنا أن تلك هي طبيعة الغابة وطبيعة الصراع مع حيواناتها المفترسة وحيث لا يوجد أي مجال أو فرصة لكلمة شكراً.. ويمضي أساتذة التربية والانثربولوجيا ليقولوا إن لغة الجنوب والدينكا بصفة خاصة تخلو من كلمات أخرى مثل كلمة صديق ومعاون وجار وما في هذه المعاني من مترادفات وعندهم فقط كلمة أخ Brother أو كلمة عدو Enemy.. ولهذا فهؤلاء القوم لا يعرفون شيئاً وسطاً بين الأخ والعدو فأنت إما أنك «أخوك بتاع انتكم» أو أنت العدو.. ولأن ذلك اعتقادًا متأصلاً فقد كانت دولة الجنوب أول عدو مباشر و«مفتشر» للسودان ولن يزول هذا الاعتقاد الآن.. حتى لو عملنا السبعة وذمتها.. ولكل هذا نرى أنه من الضروري أن نذكر الإخوة المفاوضين نيابة عن السودان بأنا درجنا في الشمال على رفع الكلفة والتبسط واعتبار الطرف المفاوض وكأنه صديق حميم.. وبعضنا قد يتونس ويتآنس ويتعرف وكأن «الجماعة ديل» «أصدقاؤه وزملاؤه وجيرانه» فيضحك معهم ويبتسم لهم ويتنازل مفاوضونا وقد «ينبطحون» بحكم هذه العاطفة الشمالية الجياشة و«الضارة» ويتساهلون معهم ويضيِّعون حقوق أهلهم بينما الطرف الآخر يعتبر أن المفاوض الشمالي ما هو إلا عدو.. وبالطبع هذا يفسر لنا لماذا كان باقان أموم يقول عند إعلان نتيجة الاستفتاء «باي باي لوسخ الخرطوم، باي باي للعروبة باي باي للإسلام باي باي للعبودية».. { كسرة: اليوم زهجنا من كثرة التساؤل حول برنامج ترحيل الجنوبيين إلى بلادهم ولهذا فلن نقول متى سيرحل الجنوبيون ولن نقول إنهم يكلفون البلاد يومياً ما لا يقل عن مائة مليار جنيه بالقديم وسنوياً يكلفوننا مبلغ ستة وثلاثين ترليون جنيه بالقديم ولن نذكر أنهم لن يقولوا لنا شكراً؛ لأن لغتهم وثقافتهم لا تحمل مثل هذه المعاني ذات البعد الروحي والأخلاقي.