كان يقبع في أقصى قرية من عالم أحلامه البائسة، يتحدث وكأنه ربط قلبه ولسانه بخيط من شمع ذائب، تلسعه شوكة من عقرب النار، تخرج كلماته راعشة راجفة معلّقة بذؤاباتها على مشنقة الضياع والفراغ. وقف على تلة ضئيلة من تلال أوهامه البالية، مهترى النشيج، ممزق الفؤاد، منكسر الخاطر، يبكي بأدمع مفسوحة على نصب الزمن الغادر، الذي لم يهبه مثقال ذرة من حظ حتى يعتلي سارية تقربه من سقف الممكن المستحيل الذي طالما رآه يترقرق كصفحة الماء أمامه مثل نصل سكين عذراء لم تذق رائحة الدماء بعد .! ولو لم يكن له من الدنيا إلا بريق الانتظار والاصطبار الطويل لِمَ لا يأتي، يطير به محلقاً ناشراً جناحيه في رحاب الرجاء، لقنع من الغنيمة بالإياب، لكنه صنع خليطاً من اللؤم وسفه القول، ليشربه وهو يجلس على مائدة اللئام. «ب» كان يشبه طوراً بدائياً من السياسيين التقليديين، لم يتطوّر عبر الزمن والحقب، لكنه وجد الطريق اللولبي المتعرِّج، يدرك به ما لا يدرك من فتافيت السياسة في بلدنا حين تنتشر المجاعة في العقول .!! يذكر أنه عندما كان غضَّ الإهاب، يحب لعبة «ملوص» بعيدانها وخيطها الخادع، فوجد أنها أنجح أدوات السياسة حين يكثر الطامعون والطالبون ويقلّ المطلوب. وما أن دلف عبر بوابات السياسة العدمية التي لم تعد تفضي إلى شيء، حتى تمثل صورة من صور العالم السفلي، وصار نسخة معدلة من عفاريت السفح المتقيِّح لعالم ساس يسوس، ومن يصنعون الآلهة الصغار التي تصنع بدورها آلهة أكبر، لمن هو أكبر حتى يأكل هذا الكبير آلهة العجوة الهشة التكوين، وهو يردد مع الشاعر العراقي الراحل بلند الحيدري: كل آمالي تلاشت مثلما يتلاشى النور عند الغسق وتساوى الليل عندي والضحى ربَّ ليل فجره لم يفق أجرع الحزن كؤوساً كلما أفرغت أترعتها من أرقي صوبت من كل صوب أسهم لست أدري أي سهم أتقى إذا استنجدت بالوهم هوت مدية الأحزان تفري مخنقي * * * أيُّها التائهُ في ودياننا ضلّ مسراك فلا شيء هنا أنا إنسان كباقي الناس ولكن.. ويح نفسي أي إنسان تراني ليس لي ماضٍ ومالي غير يوم يرسم العمر على سود أغاني وغدي فوق يدي الغيب دنا لتهاويل رماد ودخان تخفق الأيام في راحته بالأسى بالذعر بالصمت المهان وسيمضي مثل يومي بددا ذابل الأحلام مخنوق الأماني «ت» تركته الأيام يرضع من ثدييها حليب الأمنيات الصاخبة، سال على صدره لبنها السكوب، وامتلأت أشداقه كمن جاء من صحراء جوع وظمأ كاسح، تبرق في عينيه مزركشات من خوادع البصر، تضع أمامه الدروب والدنيا والناس، مجامر تعبق ببخورها محرابه السحري وهو يتبتل في صومعة السياسة كراهب فلت من قوس أساطيري سحيق..! مثل خيوط الدخان.. تتسرب من بين أياديه وأيدي الآخرين الأعمار ويمضي بالجميع زورق الأعوام سراعًا، متناقصًا، كئيبًا، محزنًا، والزمن ومضة برق خاطفة، تتقاطع فيها المشاهد وتتداخل الصور وتهمي الحادثات كمطر إستوائي عنيف، غزير، والقلوب لا تقف لتعتبر تمر هي ذاتها على بُسط السنوات، تتلاشى فيها أوسمة الوقوف الذي يحفه اليقين والاعتبار والاصطبار.. تجفل منه مقطوعة شعرية صغيرة تقول: يا رفيقي صار طفل الأمس في لحم الزمان خنجرًا في كل مكان يرسم الإنسان يعطينا البشارة صار أن يأتي لنا طفل جميل يمسك الشمس بكفّيه ويعطينا انتصاره «ث» وقف، وهو مثقل بجراحاته، يطأطئ رأسه من خيباته التي كزبد البحر، ولم يكد يلوِّح مودعًا ماضيه من تلك التلة الضئيلة، إلا وانهمرت وراءه الصور التي استدعتها الذاكرة، كلحظات مجمّدة من الزمن.. بدا فيها كل شيء شديد الملوحة، ضئيل البريق، ثقيل الوطأة.. والأعمار والأزمنة، شحنة ضخمة دائمًا لا يحتملها ظهر ولا زند، وعندما يمر كل عامٍ مترجلاً وراحلاً يغيب خلف أستار الماضي، يبكي الناس ويفرحون ويصطخبون له وعليه، لأن الذابل والذاهب قد لا يكون، أو قد يصبح أكثر مضاضة منه هذا القادم بلفحة ونفحة العذاب... لكنه يقف عند منعرج اللوي يلوك مرارة ما قد مضى. على هذه التلة الطيفية الفرضية التي تجسِّد فلسفة الزمن وهالاته وآماده اللامرئية والما بعد في تجلياته، يتهاوى كعصا نخرها السوس وأكلتها دابة الأرض.. يختبئ قلبه وحلمه بدمامله وبثوره ولا يتبين منه بعض محاسنه التي غطاها القيح.. «ج» وهو مثل كل سقط متاع يلقى وراء الظهور، لا يحس به لحظة زماعه كيف أن أظافره ومخالبه نهشت من كل شيء، وقصّرت في الآجال، وتقرب رويدًا رويدًا من المصائر الأبدية، فيطفق مثل الواهمين المعلَّقين على أوشحة الخيال في الاحتفاء والاحتفال بلحظة الغياب ولحظة المغادرة والقدوم.. ولا يدري الغافل منهم إنما تسلم السنون المتواليات في زمن القحط من عذاب إلى عذاب.. تلك هي حالة الجنون المطلق، إذ يودع أحزانه ويستقبلها هي نفسها عبر ذات المدخل الزجاجي الشفيف، وفي أجفان الشهور والأيام واللحيظات والسويعات والليالي الطوال القادمة تركة مهولة من الأسى المستطال والنكد والأدمُع وما يُدمي الفؤاد.. فرح الأعياد يأتي من بعيد يستنهض عزم الزمن المتعبِ والريح من القمة تغتاب شموعي ورفعة الشباك كم تشبه جُوعي «ح» يقلًّب تراب أزمنة الخمول والبؤس السياسي، فلا يجد شعاعات يتراقصن ويرجحنّ بها ولها قلبه الظامئ، فعلى وجهه كل دنياه، بغال الزمن الجامح تدوسه حوافرها، من أقاصي الدنيا إلى أدناها، ونصالها التي غمرتها في البطون، تمزق الأحشاء وتفتح ألف نافذة للسأم والكره المجيد. ونامت ذؤابات النخيل على الجراح ولم تنم أعينه التي أعياها الترقُّب والانتظارات الطوال.. لم تعد الشمس عنده كما كانت، غطاها دخان اللعبة القذرة ورماد الحرائق، والسم الزعاف يسري في جسد أحلامه بلا توقف.. واللهب الحارق يسيل على الجلود .. هكذا عندما قابلته وحدقت في فراغه، حيث كانت تقع عيناه المبصرة، لا شيء هناك، كل الذي شيّده تداعى، وما بناه تهدّم، تناثر مثل عريشة القصب التي عاندت الأعاصير، كان مصفراً ومغبراً مكفهراً. كان ساهماً... غائماً.. يعقد حاجبيه ويشد عينيه لبعضهما كما المقلاع في يد طفل غرير، يذم شفتيه عابساً يحاكي بهما مخالب نمر خاطف الضربة والفتكة.. وجلبابه وما يتزيا به في أزمنة جدبه وقحطه السياسي تنفران منه وتنكرانه، لأنه أخذ من الدنيا ولم يعطها.. لم يأخذ باستحياء.. وظن الأشياء هي الأشياء.. يا للهول!!.. كان صوت محمد مهدي الجواهري الجهير يهتف: يهم يبث النجم سراً فينثني كأن رقيباً في الدراري يحاذره وتنطقه الشكوى فيخرسه الأسى فيسكت لأخيه إذا جد عاذره يروم محالاً أن يرى عيش ماجد أوائله محمودة وأواخره فؤادي وإن ضاق الفضاء عنه فسحة فلابد أن تحويه يوماً مقابره فؤادي وكم فيه انطوت لي سريرة عظيماً أرى يبلى وتبلى سرائره سيحمل همي عند منزل وحدتي وتصبح آمالي طوتها ضمائره فيا طير لا تسجع ويا ريح سكّني هبوباً على جسمي ليسكن ثائره ويا منزل الأجداث رحمة مشفق عليه ففيك اليوم قرّت نواظره ويا بدر من سامرته وجدك انقضى فمن لك بعد اليوم خلٌّ تسامره؟ عساك إذا ضاقت بصدرك فرج ة تطالعه في رمسه فتذاكره ويا خلة الباكي عليه تصنُّعاً ألم تكُ قبل اليوم ممن يغايره؟ تحمّل ما ينأى فشاطره الردى فما ضرّ لو كانت الرزايا تشاطره ويا غاضباً قلبي لترقيق حره سراحاً فقد دارت عليه دوائره دعا بك يستشفي فأغضيت فانطوى وما فيه إلا الهجر داء يخامره أمن بعد ما وسدته بت جازعاً إذا مات مهجوراً فلا رق هاجره فيا ظلمة الآمال عني تقشّعي فقد تتجلى عن فؤادي دياجره