{ كانت الحجة الواهية البريطانية لاحتلال السودان بقيادة كتشنر هي إنهاء حكم الدولة المهدية المستبدّ حسب الزعم واستعمار السودان أي ليس من أجل نهب موارده والاستفادة من «الموارد» البشرية» في الحروب العالمية، وما يدحض هذه الحجة الزائفة ويكشف الحقيقة هو أن الاستبداد الذي مارسته سلطات الاحتلال البريطاني بعد الغزو وتدمير النظام الأخلاقي للمجتمعات السودانية المسلمة بالسماح بفتح الخمارات «البلدية والأفرنجية» وبيوت السوء والفاحشة والتصدق بممارسة أشذ» وأقبح السلوك بصورة رسمية من الحكومة، وكل هذا جاء بعد تتويج الغزو البريطاني باستباحة أم درمان باعتبارها عاصمة البلاد، وقد نهب الجنود البريطانيون و«غيرهم» حتى ذهب النساء وذلك بعد معركة «كرري».. الحقيقة هي أن بريطانيا كانت من خلال «عملاء الداخل» تصبو إلى توسيع دائرة نفوذها في المناطق التي يسهل استضعاف أهلها بسبب الخلافات والفتن الداخلية، وإذا كان هذا اليوم قد حدث في مثله قبل أكثر من قرن من الزمان وقوع معركة «كرري» وهو الثاني من سبتمبر عام 1898م، فهي إذن ذكرى مُرّة قاسية على نفوس الشرفاء من أبناء الوطن وأبناء كل الأمة الإسلامية في المشارق والمغارب، هي جرح غائر موروث جيلاً عن جيل في القلوب. هي تكرار لهجمات المغول والتتر على الدولة العباسية، هي محطة تاريخية وسطى بين الماضي والحاضر الذي يشهد الآن على احتلال فلسطين وأفغانستان والعراق من أجل حماية أمن الاحتلال الإسرائيلي والسيطرة على النفط.. هي سلسلة تآمرية متصلة الحلقات عبر التاريخ. سقط في معركة كرري 16800 شهيد حسب ما تواتر من زعماء القبيلةفي معركة الدفاع عن العقيدة والعرض والنفس توزعت فيها الأسهم بين أبناء السودان من كل الجهات داخل الدولة المهدية. معركة كرري جرح عميق مؤلم في قلوب الأحفاد تنكأه ذكراها كلما تمر علينا. ونطفق نتساءل في كل عام على الأقل حينما تمر الذكرى، أي ثغرة أوتيت منها بلادنا؟ هل أحسن أسلافنا النيات وأساءوا التفكير والتدبير؟! لقد ضاعت الدولة العباسية التي كانت ذات الشوكة للأمة بعد أن أعوزتها الفطانة والكياسة في آخر سنواتها وبنفس السبب ضاعت الأندلس دولة المسلمين في أوروبا، وكذلك دولة المسلمين العثمانية بعد أن أوتيت من مصر وأخيراً سجّل التاريخ ضياع دولة المسلمين في إفريقيا والوطن العربي، سجل ضياع الدولة المهدية من بوابتها الرخوة الهشة من الناحية الشمالية بعد أن استطاعت سد كل أبواب الجهات الأخرى. ومن أهم أسباب هذا أو أهم الأسباب بالأحرى هو تسلل سوس التآمر الأجنبي الأوروبي إلى عود الدولة العثمانية حينما وجد واستطاع إلى ذلك سبيلاً.. إنه سبيل غياب الكياسة والفطانة رغم موجهات الإسلام الذي يقول بأن المؤمن فطن كيس ويقول «خذوا حذركم». ويقول عليكم بالجماعة إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية. مخالفة كل هذه الموجهات الإسلامية الإستراتيجية فتحت الطريق لكرومر وكتنشر ومن على شاكلتهما ليستبيحوا أرض وعِرض المسلمين. كررى ستظل جرحاً في القلب وعبرة في الذهن وأسفاً في النفس على ضياع أمجاد إسلامية بناها الرجال بقيادة الإمام المهدي وتسبب في هدمها غياب الفطانة والكياسة والحذر.