لم أستطع والله تجاوز مقال الأخ عبد المحمود الكرنكي الذي نسعد بانضمامه إلى كادر «الإنتباهة» نائباً لرئيس التحرير، وما أعدتُ نشر المقال اليوم إلا لأطلب من القراء جميعاً مَن قرأه ومَن لم يقرأه أن يتمعَّن في جزء من تاريخنا وكيف يُعيد التاريخُ نفسَه هذه الأيام، وإلا لِأرجو من قيادات الحكومة والمؤتمر الوطني ومن المفاوضين عن السودان وقيادات القوى السياسية جميعاً قراءته... إنها دعوة لنتأمل في زمن الخيانة والعمالة في كلمات الشاعر العراقي بدر شاكر السياب التي وردت في ثنايا المقال المدهش: علاقة (قطاع الشمال) بمعركة كرري! صادف أمس الأحد 2/ سبتمبر 2012م ذكرى معركة كرري (معركة أم درمان، التي وقعت صباح الجمعة 2/ سبتمبر 1898م. حيث نجم عن المعركة الخالدة (16.800) شهيد. قتلت القوات الغازية الجرحى والأسرى وحرمت الجرحى من شرب ماء النيل وتركت أعداداً من جثث الشهداء أياماً حتى انتفخت. واستباحت القوات الغازية أم درمان ثلاثة أيام ونهبت كل المقتنيات الشخصية والحلي والمصوغات الذهبية. وهدمت القذائف التي أطلقتها السّفن الحربية من ناحية جزيرة توتي قبَّة الإمام المهدي عليه السلام. استغرقت معركة كرري ساعة ونصف تقريباً. حيث بدأت المعركة في السابعة صباحاً وانتهت في الثامنة والنصف على وجه التقريب. وسقطت الراية الإسلامية. وكان يُفترض عند الاستقلال رفع الراية الإسلامية مرة أخرى. لكن بسبب تأثير التعليم الغربي رُفِعت راية العلمانية والقانون البريطاني!. من تلك السّفن الحربية الغازية كانت السفينة (مَلِك) التي ظلت تقبع على النيل الأزرق بالقرب من (الكشافة البحرية). القوات الغازية استخدمت في إبادة السودانيين أسلحة محرَّمة دوليَّاً. الإبادة كانت على أرض وطنهم. كان من ضمن الجيش الغازي ما بين (3 4) آلاف جندي سوداني. هؤلاء يمثلون (قطاع الشمال) موديل القرن التاسع عشر أو (قوى الإجماع الوطني) أو (التجمع الوطني) موديل القرن التاسع عشر. وقد سارت بريطانيا على نهج تلك الإستراتيجية، حيث قامت بتجنيد تنظيم من عناصر سودانية لمقاومة حركة اللواء الأبيض بقيادة علي عبد اللطيف. حيث أسمت بريطانيا ذلك التنظيم (اللواء الأسود). كما قامت بريطانيا بتجنيد حركة مسلّحة لمقاومة السلطان علي دينار. وقد أسمت بريطانيا تلك الحركة المسلحة (الكتيبة السّودانية). وعندما قاد الجنرال (هدلستون) جيشه ومن ضمنه (الكتيبة السودانية) لقتال السلطان علي دينار في المعركة الفاصلة في (برنجية)، كان جنود (الكتيبة السودانية) هم الذين قتلوا السلطان الشهيد علي دينار. اليوم قامت أمريكا وبريطانيا بتجنيد تنظيم من عناصر سودانية أسمته (قطاع الشمال)، كما قامت بتنظيم حركة سياسية أسمتها الحركة الشعبية وأنشأت حركة مسلحة أسمتها الجيش الشعبي، وذلك لقتال الدولة الوطنية الإسلامية في السّودان وتفكيكها. في التزام بحكمة السكوت من ذهب، استقبلت الأجهزة الإعلامية ذكرى معركة كرري بالصمت والسكوت. كما استقبلت وزارة الخارجية ووزارة العدل ذكرى تدمير مصنع الشفاء بالصمت والسّكوت وأيضاً بعدم تفسير لماذا لم تقم حكومة السودان بمقاضاة الدولة التي رجمت منشآتها الدوائية بالصواريخ. لماذا الصمت والسكوت. قال ابن منظور يقال رجل (سِكِّيت) و (سِكْتيِت) و(ساكوت). وقد أعجبت مقولة ابن منظور حكومة السودان وأجهزتها الإعلامية ووزارتا خارجيتها وعدلها. في ذكرى معركة كرري وتدمير مصنع الشفاء، صار قَدَر السودان وزير إعلام سكِّيت، ووزير خارجية سِكْتِيت ووزير عدل ساكوت! . في طريق الواديبأم درمان (وادي سيدنا) في منطقة (العجيجة)، توجد لافتة تشير إلى المكان الذي دارت فيه معركة كرري. لكن أين قبور العدد الأكبر من الشهداء. هناك عدد كبير من الشهداء تمّ دفنهم في منطقة المعركة. وهناك أعداد أخرى من الشهداء دُفِنت في مقابر الشهداء بأمدرمان في المنطقة التي تعرف اليوم بمنطقة (الشهداء أم درمان)، حيث الموقف الكبير للمواصلات وعيادات الأطباء وحركة الناس. تلك الضوضاء الهائلة في (منطقة الشهداء) اليوم كاد الناس معها أن ينسوا آلاف (الشهداء) الذين قدموا الأرواح فداءً للإسلام والسودان. مقابر أبطال الإسلام والسودان التي هي جديرة بالاحترام والتوقير، كان من المفترض بدلاً من تحويلها إلى موقف مواصلات تحويلها إلى مزار سياحي وطنيّ. تقليديّاً في ثقافة أمدرمان كانت منطقة الشهداء تمتدّ من البوستة غرباً إلى بيت أزهرى شرقاً. في مقابر الشهداء اليوم (قبر الشهيد مكي أمين كبّرو) حيث تجد مكتوباً في شاهد قبره (الشهيد مكي أمين كبرو الذي استشهد في موقعة كرري يوم الجمعة 2/ سبتمبر 1898م ودُفن بأم درمان في مقبرة الشهداء بميدان الشهداء). هناك أيضاً تجد قبر الشيخ محمد ود مضوي الذي استشهد في معركة تحرير الخرطوم. عن أبطال معركة كرري وأسود كرري كتب الشاعر عبد الواحد عبد الله كلمات نشيد اليوم نرفع راية استقلالنا والذي قام الفنان الراحل محمد وردي بتلحينه وغنائه (كرري تحدّث عن رجال كالأسود الضارية... خاضوا اللهيب وشتتوا كتل الغزاة الباغية... والنهر يطفح بالضحايا بالدماء القانية.. ما لان فرسان لنا.. بل فرّ جمع الطاغية). ثبات الأبطال الشهداء في معركة كرري كان ملهماً لثبات الأبناء والأحفاد في معارك الاستقلال حتى تمّ جلاء الغازي الدخيل عن السودان. لقد جاء استقلال السودان بثمن عزيز غالٍ . حيث دفع أبطال السودان وأحرار السودان مهر الحرية أنهاراً من الدماء حتى نالوا الاستقلال. لذلك من المحزن اليوم أن يبيع عملاء (قطاع الشمال) والحركة الشعبية و(قوى الإجماع الوطني) السودان رخيصاً في سوق النخاسة السياسية. في هذا الزمن الرديء يبيع العملاء السودان الوطن العزيز السَّيِّد. قال بدر شاكر السيَّاب... إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون... أيخون إنسان بلاده... إن خان معنى أن يكون... فكيف يمكن أن يكون. هناك العديد من الأناشيد الوطنية عن معركة كرري التي تمّ حظرها في الإذاعة والتلفزيون لعدّة عقود تمشيَّاً مع متطلبات تفشي الجهل الوطني!. الأجيال الجديدة لم تسمع نشيد محمد وردي (اشهدوا شهداء كرري... يا أساس الوطنية.. يا مَن كافحتم وناضلتم... أحفادكم نالوا الحرية) ولم يسمعوا نشيد محمد أحمد عوض في نشيد (مافيش تفرقة هيا انبذوا الرجعية بندور تحكم البلد القوة الوطنية) حيث يقول (تشهد كرري يوم جيش الأعادي الغار). عندما انتصرت النار على المبادئ في (كرري)، تحيّز الأبطال بقيادة خليفة المهدي لقتال جديد. وذلك ما حدث في معركة أم دبيكرات. عند انسحاب الأبطال من أم درمان بعد كرري شيّعتهم أشعار عبد الله ود سعد الحزينة الخالدة: السادة الخيرة فاتوني وخلّوني في حيرة. كان من ضمن ضباط جيش كتشنر الغازي الضابط الشاعر حافظ إبراهيم (شاعر النيل)، كما يُلقَّب في مصر. ذكرى معركة كرري الخالدة لها علاقة مباشرة بالواقع السياسي اليوم فهي تجدِّد في الأذهان أن (قطاع الشمال) هو النسخة الجديدة من (الفرقة العسكرية السودانية التي جاءت ضمن الجيش الغازي)، هو النسخة الجديدة من (اللواء الأسود)، هو النسخة الجديدة من (الكتيبة السّودانية). لذلك يجب عدم التفاوض باسمه أو معه تحت أي ظرف. ياسر عرمان ورهطه لا مقام لهم في هذا السودان، ولا حقّ لهم في التحدث أو التفاوض باسم أي مكان أو شخص في السودان، إلا إذا كان ذلك الحقّ مكفولاً لعملاء (الكتيبة السودانية) الذين قتلوا السلطان الشهيد علي دينار أو عملاء (اللواء الأسود) الذين وضعهم الإنجليز لغماً في طريق الحركة الوطنية بقيادة علي عبد اللطيف. العميل في (قطاع الشمال) أو (الكتيبة السودانية) أو (اللواء الأسود) أو (الفرقة العسكرية السودانية) التي كانت ضمن الجيش الإنجليزي الغازي. غير مؤهل أصلاً للتفاوض في القضايا الوطنية. هل فهم صديقي الأستاذ الطاهر ساتي لماذا نرفض التفاوض مع عملاء قطاع الشمال؟. يجب عدم التفاوض مع عملاء قطاع الشمال. يجب حظر التفاوض العرماني. لماذا الحرص على التفاوض مع عميل عصابة جوبا. عرمان الذي تجرى منه العمالة مجرى الدم من العروق، ليس بقطّ وديع أو شاعر مرهف يدعو الله أن يجعل أيَّامه مجدولة بعضها في بعض بخيوط الورع وحبّ الطبيعة!.