هناك شبه اتفاق بأن صفة الغيرة، صفة مطلوة ولا بدَّ منها، لتحقيق الأغراض النبيلة، لتجويد الأداء والمنافسة الشريفة، والحض على الاجتهاد، وهذه الغيرة إن توقفت عند هذا الحد، فإنها ستكون أمراً محموداً، أما إذا تجاوزت ذلك السقف، فإنها ستصبح كالنار الحارقة، فتتلف كل شيء، وتتحول إلى غل وحسد، وكما هو معروف بأن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. والغيرة بين أفراد المجتمع، وخاصة الغيرة المعقولة، تدفع نحو النجاحات، وتقود أصحابها لتحقيق أهدافهم والوصول إلى ما يرغبون فيه، فيحفز بعضهم بعضاً ليعم النشاط وتتحرك الهمم. وعلى صعيد الدول والمجتمعات، نرى كيف صعدت أمم وهبطت أخرى، وذلك نتيجة للتسابق في مجال اكتساب المعلومات وتطوير أسباب الحياة وتسهيلاتها، ولو لم تكن هناك غيرة، لتجمِّد الناس في حالهم المتأخر، ووضعهم البائس، وارتضوا لأنفسهم البقاء في مواقع الكسل، مما سينعكس على مزاجهم وعاداتهم الموغلة في التخلف والمؤثرة على نمط المعيشة مأكلاً ومشرباً وملبساً وسلوكاً وغير ذلك من ممارسات بعيدة عن التطلع والطموح. أما الغيرة المدمرة، فهي التي تحرِّض من يتصف بها نحو السعي لعرقلة نجاحات الآخرين، فيكون الشعور سالباً وليس موجباً، كمن يرى سيارة فارهة تقف في الشارع العام، فتحدثه نفسه الأمّارة بالسوء لتخريبها، فيلتقط آلة حادة لتشويه لونها، بدلاً من الاستمتاع بجمالها وإتباع القول المأثور والدعاء «اللهم إني أسألك من فضلك»، ويتولد لديه الإحساس بضرورة الحصول على مثلها ببذل الجهد والسعي نحو إقتنائها بما يتعارف عليه الناس من طرق مشروعة، وما أكثر الذين اشتكوا وبكوا من مثل هذه الممارسات التي كانت بفعل الحسد والغيرة اللذين أوصلا من أُصيب بهما إلى ذلك الدرك السحيق. وفي مجال العمل العام، اتَّخذت الغيرة المَرَضية طريقها نحو المتعلمين أو فلنقل المتعالمين فاستشرت بين هؤلاء للأسف الشديد خصائص لم تكن موجودة في مجتمعنا، وأصبحت عناصر التميز والنجومية هدفاً للقتل، فيما نسميه بالقتل السياسي واستهداف الشخصيات، ليس لأن تلك الشخصيات تمثل خطراً مادياً أومعنوياً، لكنها شخصيات متميِّزة بعلمها وقدراتها، ويكون عادياً، أن تتآمر جماعات ضد وزير أو مدير لأنه نجح في مهمته وبزّ الذين سبقوه بالإنجاز وحسن الإدارة ورجاحة التفكير، ذلك لأن الغيرة التي استهدفته بالتآمر، قد كانت نتيحة لجماعات انتظمت في كيانات نسميها مجموعات أعداء النجاح. وتتضح آثار هذه الصفات الأخيرة، في أحزاب كانت ملء السمع والبصر من حيث التنظيم والتنسيق والعقيدة الواحدة، فحولتها إلى شراذم تعصف بين عضويتها الخلافات، فكان مصيرها الزوال من مسرح العمل السياسي، واضمحلال كفاءة منسوبيها، مما يجعلنا نتذكر تاريخ العمالقة من قياداتها، وندهش للسلوك الذي آلت إليه قيادات الحاضر فأصبحوا حسب الذي يعانون منه أقزاماً بل أقل كثيراً من الأقزام. والغيرة التي أتحدث عنها وأبحث في أسبابها ومسبباتها، هي السبب الرئيس في تراجع نهضات الأمم، والقضاء على أحلام الشباب، من أجيال كانت تتوق نحوالصعود، فوجدت نفسها مرتكسة في أسفل الحضيض، وذلك عندما نهشت أمراض الغيرة في النفوس، مُعيقة للتفكير السديد، ملوِّثة للقلوب بالدماء التي سَرَت في شرايينها الفيروسات والميكروبات وهي الأصل لما حدث من فشل وفساد. ولو كنا نعلم أونفقه لكرَّسنا جهود الدولة والمجتمع لتصبح الغيرة عنصراً إيجابياً، ولا نسمح بتحويل أي قدر من قيمتها إلى ضرر وإيذاء بمثل الذي نشاهده من مظاهر يندى لها للأسف الشديد كل جبين.