ليس غريباً أن يتابع مساعد الأمين العام للشعبي الدكتور علي الحاج محمد من مقره في مدينة بون مراحل علاج والي شمال كردفان بألمانيا وهو لا يعني بالضرورة أن علي الحاج قد تخلى عن خطه المعادي للحكومة لكن الخطوة تمثل تعبيراً وسلوكاً سودانياً بحتًا يتجاوز المحددات السياسية، ومعلوم أن الإنسان السوداني يمتلك قدرة هائلة على التواصل الاجتماعى بصورة تقفز على الفواصل السياسية، وهذا بائن في مجالس المسرات والأحزان إذ نجد أهل السودان يتواصلون فيها إلا الشواذ منهم الذين يفجرون في الخصومة السياسية ومنهم الذين يشمتون في الابتلاءات وهذه تتنافى مع مبدأ الدين الإسلامي ومرجعياته وأدبياته في التسامح.. السودانيون يستمدون مرجعيتهم في التواصل الاجتماعي من سلوك وأخلاق مجتمعهم وفاعليته في التواصل وكثيراً ما يقدم أهل السودان للآخرين نموذجاً مختلفاً ومفهوماً جديداً في التعبير الاجتماعي يذهل المراقبين وما من شك أن حالة التجاذبات السياسية وتوتراتها تخلف جواً من القطيعة لكن المفهوم العام والمعيار الأخلاقي لأهل السودان يتجاوز ذلك وأن التفاعلات اليومية تثبت ذلك وحالة مثل نموذج «علي الحاج» تزداد وترتفع كل يوم، وما شاهدته بمطار الخرطوم ومشاهد المستقبلين للشيخ معتصم ميرغني مساء عودته من مشفاه تعبير أبلج لحالة الإنسان السوداني النبيل حيث تدافع الشيوخ والشباب والقيادات نحو صالة كبار الزوار في مشهد أدهش النظاميين والأمنيين المعنيين بتأمين مداخل المطار والصالات.. جاء الجميع حتى الذين تتحدث المجالس همساً عن أنهم على خلاف مع الوالي، جاءوا يستقبلونه وهم يحملون أخلاق وقيم أهل هذا البلد وما تربوا عليه من نفيس موروث، جاءوا ليس لأن معتصم والٍ ناجح وله شعبية وهو مرتبط بقاعدة الولاية السياسية والشعبية بتلك القوة، ولكن جاءوا ل «معتصم» ابن السودان أولاً وكردفان ثانياً وسليل بيت زعامة أهلية له امتداده وجذوره على كل ربوع السودان، وما من شك أن ما وجده «معتصم» في مطار الخرطوم هو رسالة مختلفة له شخصياً، وأحسب أنه قد أدركها منذ أن اتّكأ رأسه على وسادة السرير الأبيض، فقد ظل محل سؤال واهتمام ودعوات من كل إخوانه ومعارفه في كردفان الكبرى له بالصحة والعافية!! ليس غريباً أن يقف على صف مستقبليه كل منافسيه في الحملة الانتخابية الأخيرة التي حملته تصاريف وأقدار يدركها الكل على كرسي حكم الولاية، فقد اصطف الدكتور فيصل حسن إبراهيم ومحمد أحمد الطاهر أبوكلابيش والفريق أول ركن محمد بشير سليمان والمهندس خالد معروف وجميعهم ضمن الخمسة المرشحين لإدارة الولاية، لم يقف فيصل حسن عند محطة تجاوزه وهو الحائز على الأغلبية الكاسحة في كل مراحل الترشح لمنصب الوالي فقد التزم قبل ذلك كله بإرادة الحزب وساهم بفعالية في حملة معتصم الانتخابية بعيداً عن وكادة السياسة ومنعطفاتها وجراحاتها!! تقدم صفوف المسقبلين لوالي شمال كردفان وزير مجلس الوزراء الرجل الاتحادي المهذب الأستاذ أحمد سعد عمر ووقف بجواره والي جنوب كردفان أحمد هارون وهو يوزع الابتسامات والتحيات لكل الحضور، وبرلمانيو كردفان كانوا حضوراً مثلهم علي الشرتاية، آدم لبن، محمد الحاج، كما حضر زعيم أنصار السنة بشمال كردفان مولانا صلاح حمتو ووفده الميمون، وكذلك أمير الحركة الإسلامية بشمال كردفان الشيخ الدكتور صلاح الدين الهادي رغم مظاهر الإعياء عليه، وهو القادم من رحلة علاج بروسيا، ومن الولاية جاء رئيس المجلس التشريعي الدكتور أحمد علي عبيد الله وقيادات المجلس الشريف محمد عباد ومحمد أحمد عبد السلام لجانب المرأة بقيادة الدكتورة سلمى.. كل هذا التواصل الإنساني الكردفاني يستمد مشروعيته كما أسلفت من منهج الإسلام ثم مرجعية أهل السودان المجتمعية وخياراتهم في العقد الاجتماعي التي لا توجد في أي من بلدان العالم وهي «أي ثقافة أهل السودان الاجتماعية» هي التي لا تزال ساندة للمجتمع السياسي في السودان وهي الشعرة التي تمثل الفضاء الثقافي العام في معاملات السودانيين مهما اختلفوا سياسياً أو فكرياً دائماً تجدهم يقفون عند نقطة مركزية من خلال الأعراف وما التزمه المجتمع السوداني من سلوك اجتماعي ومنهج ديني، وبهذا المعنى نستطيع أن نقول إن التحولات والتفاعلات التي تتعرض لها البنى السياسية في السودان قليلاً ما تخدش حياء المجتمع وما تعارف عليه أهل السودان من تسامح، وهذا الحديث وبهذه الروح المثالية لا ينفي تأثير بعض المواقف ومراكز القوة السياسية في علاقات السودانيين لكنها ليست معياراً يجعلنا نقول إن السياسة السودانية تمتلك القدرة على قيادة الشعب السوداني بالإكراه وتسلبه إرادته في التعبير الحُر عما يريد وإلا لما حصد البعض التأييد والمواقف السياسية من أغلبية السودانيين.. شيخ معتصم جاء معافى والحمد لله لكنه مرهق وإن أثر التعب عليه بائن، فهل يا ترى يستطيع الرجل مواصلة المسيرة وملاحقة الأحداث التنموية والسياسية والاجتماعية في ولاية تتسع مساحتها على كل ولايات السودان؟؟ نقول هذا وندرك أن بلادنا لم تبلغ مرحلة أن تعمل المؤسسة والقانون واللائحة، فنحن ما زلنا نتحرك تحت تأثير كاريزما وموجهات الرجل الأول في المؤسسة، فهو لا يرغب ولا يحتمل تجاوزه مهما كانت الظروف!!