حزمت حقائبي في السابع والعشرين من رمضان لقضاء العيد مع العيال، وكانت ابنتي لينا قد أعطتني درساً على الهاتف، وأنا أعطيها المبررات عن تأخري في الحضور (Dad stop lying to your self). وكان المطار مكتظاً بالعائدين من الغربة لقضاء العيد بين الأهل والأحباب، وكنت سابحاً عكس التيار كحالة شاذة أفرزتها سنين الغربة الطويلة وولادة الأولاد في بلاد أعيادها مختلفة بمسميات مختلفة وفي أزمان مختلفة. استقبلني وودعني ببشر كل من يعمل بالمطار، ومازحني أحد الموظفين في صالة المغادرة وهو محتج على الحقائب المحملة بحطب الطلح «يا دكتور المغتربين ديل بشيلو الحطب في صالة المغادرة ويجيبوهوا لينا شفع في صالة الوصول». صعدت إلى الطائرة وصعدت هي الأخرى فوق أجواء الخرطوم. وتطلعت من النافذة، وتذكرت فناننا الأسطورة عثمان حسين وهو يغني «محراب النيل» من كلمات الشاعر التيجاني يوسف بشير «أنت يا نيل يا سليل الفراديس.. نبيل موفق في مسابك ملء أوفاضك الجلال فمرحى بالجلال المفيض من أنسابك»، وتعاطفت مع من ادعى قرض القريض حينما قال «يا نيل يا طويل يا ملولو بالليل ده ماشي وين». غرقت بعدها في أحلام اليقظة.. وكان أول رمضان أصومه في السودان بعد أكثر من عشرين عاماً اختلطت فيه ذكريات الطفولة والشباب بواقع منتصف العمر، وكان اشبه بشريط سينمائي يختزل الزمن، تعرفت فيه على أناس أخيار، وغمرني فيه أصدقاء كثر بحب عميق وكرم فياض، وانهالت عليَّ الدعوات بالموائد الرمضانية، وكانت أكثر من أن يستوعبها الشهر.. ولفت نظري وأنا العائد للوطن بعد غياب سلوك الصائمين ساعة الإفطار.. الكل في عجلة من أمره ليسابق الزمن ويقود بسرعة جنونية، وعلى جانبي شارع ود مدنيالخرطوم تتجلى لوحة الكرم السوداني الأصيل، فيتسابق سكان القرى إلى إكرام عابري الطريق وإجبارهم على التوقف. استقرت بي أحلامي في اليوم الرابع والعشرين من رمضان، وفيه تم تدشين منظمة د. كمال أبو سن الخيرية في شهر الخيرات، واحترق طاقم قناة النيل الأزرق بقيادة الجنرال حسن فضل المولى ليصبحوا شموعاً تضيء وتزين جنبات صالة إسبارك سيتي، ليخرجوا حفلاً بهياً ويؤرخوا ويرسموا لوحة من عمل الخير والدعوة لمد يد العون والوقوف بجانب مرضى الفشل الكلوي، فتبرع الشعب السوداني بالسوداني والدولار، وأتى بعضهم ليتبرع بجزء من دمه ولحمه أي كليته، واتصل بي بعد تلك الليلة وكان أحد فرسانها المريض الصديق التبار، وهو يتعتذر عبر الهاتف. وكان قد صعد معي إلى منصة الاحتفال، وقد تبرعت له زوجته الرضية برضاء تام بكليتها وقد تعافى، صعد معي بالإضافة إلى الطفل علي أبو حريرة الذي أبكى وطناً بحاله وهو في انتظار الشفاء القادم من أهله في السودان، قال لي الصديق الصدوق «يا دكتور أنا آسف ما قدرت اتكلم في التلفزيون لأنه العبرة خنقتني من حالة الوليد، ولكن الحمد لله اتسترت وما بكيت لكنت كنت بدور أقولك في اللحظة ديك تشيل كلوة الرضية مني وتزرعها للشافع ده، وأنا الكبير برجع للغسيل»، وصحوت بعدها على صوت المضيفة الأرضية على مطار دبي وهي تعلن أن على الركاب المتوجهين إلى لندن التوجه إلى البوابة.. وتذكرت حينها مقولة أحد المرضى الدناقلة الذي قابلني في بداية اغترابي، وقد سألني: «ليك كم في البلد دي يا دكتور» قلت: »ستة شهور» فقال لي: «أصلاً الأربعتاشر سنة الأولانيين ديل هم الصعبين وبعد داك بتتعود».