لم أفهم، ولا أحد ممن أعرفه فهم، لماذا قررت مصر هدم الأنفاق التي تصل بين غزة وسيناء، في خطوة مفاجئة لم يلجأ إليها نظام مبارك. أدري أن المتحدث بالقوات المسلحة أعلن في مؤتمر صحفي عقده يوم 2/10 أن تلك الخطوة تمت لاعتبارات تتعلق بحماية الأمن القومي المصري، وهو اعتبار مهم لا ريب، لكن الكلام يظل ناقصًا وغير مقنع ما لم يذكر لنا المتحدث الرسمي شيئًا من مظاهر أو قرائن تهديد الأمن القومي التي سبَّبتها تلك الأنفاق. هل كانت مصدرًا لتهريب السلاح إلى مصر، أو معبرًا يستخدمه الإرهابيون والمتطرفون أو طريقًا يسلكه مهربو المخدرات على الجانبين. وهل ثبت ذلك في قضايا مرفوعة أو تحريات موثوقة؟ أدري أن الأبواق الإعلامية قالت شيئًا من ذلك القبيل، لكن هناك فرقًا بين استنتاج البعض وتخميناتهم وبين المعلومات الرسمية التي تعلن بناء على تحريات تمت أو تحقيقات جرت أو اعترافات أدلى بها البعض وأحكام أعلن فيها القضاء الحقيقة، ولكن أن يُطلق التصريح هكذا في الفضاء، ثم يُترك لمن يهمهم الأمر أن يجتهدوا من جانبهم في التعرف على خلفيته، فذلك مما لا يليق بثورة أطاحت كنز إسرائيل الإستراتيجي ونظامه. وهو ما لا يستقيم في ظل رئاسة لها خلفيتها الإخوانية، التي ظن كثيرون أنها ستكون أكثر إنصافًا للفلسطينيين وأكثر تفهمًا لاحتياجات أهل القطاع المحاصَرين. بل توقع البعض أن الرئيس المصري سيعمل على فتح ممر رفح للتخفيف من عذابات المحاصَرين في غزة، وما خطر ببالهم أن حكومة الثورة يمكن أن تلجأ إلى إحكام الحصار على القطاع، ومن ثم إلى زيادة تعاستهم ومضاعفة عذاباتهم. لا يقول لي أحد إن الأنفاق غير مشروعة، فذلك أفهمه جيدًا، لأنها لم تكن سوى ضرورة لجأ إليها الفلسطينيون للتخفيف من آثار حصار غير مشروع، يستهدف خنقهم وتركيعهم. إن شئت فلنقل إن الأنفاق تعد مجرد «مخالفة» في حين أن الحصار جناية كبرى، إذا اعتمدنا التوصيف القانوني. أو هي مفسدة صغرى أُريد بها تجنب مذلة المفسدة الكبرى المتمثلة في الحصار. معلوماتي أن أهل غزة ليسوا سعداء بالأنفاق التي قُتل بسببها أكثر من150 شخصًا، إما صعقًا بالكهرباء أو بسبب الاختناقات والانهيارات. لكنها كانت مجرد وسيلة للتنفس تفهّمها النظام السابق أغلب الوقت، فغضّ الطرف عنها سواء لأنها تستبعد احتمال انفجار الموقف في القطاع، أو لإدراكه أنها تلبي احيتاجات أهله فضلاً عن أنها لا تشكل تهديدًا حقيقيًا للأمن القومي المصري، ولو أنه شك في ذلك في أي لحظة للجأ إلى تدميرها، خصوصًا أن تعاطفه مع الإسرائيليين كان أكثر. معلوماتي أيضًا أن الأنفاق استُخدمت طول الوقت لتلبية احتياجات القطاع من مواد البناء والوقود والسلع الاستهلاكية العادية. وإذا كان هناك تهريب للسيارات أو تسلل لبعض الأفراد، فذلك أمر مفهوم ويظل في الحدود التي تمارس داخل مصر ذاتها، فضلاً عن أنها من الشرور التي يمكن التعاون على التصدي لها وإيقافها. بعد الإغلاق أو التدمير الذي تم «104 أنفاق أغلقت حتى الآن» ارتفعت الأسعار داخل القطاع. وقد قيل لي إن طن الحصوة التي تستخدم في البناء لتعويض الخراب الذي خلفه الاجتياح الإسرائيلي تضاعف تقريبًا، فارتفع ثمنه من 80 إلى «150» شيكل وهو ما حدث أيضًا للتر البنزين، علمًا بأن الإسرائيليين كانوا يبتزون الفلسطينيين ويبيعون لهم لتر البنزين بنحو 80 شيكل « 2.50 دولار» في حين أنهم كانوا يشترونه من مصر بسعر 30 شيكل للتر، أي بما يقل عن دولار واحد. إزاء الغموض الذي أحاط بالقرار المصري، فلعلنا لا نذهب بعيدًا إذا أرجعناه إلى عاملين، الأول أن الأجهزة الأمنية المصرية اعتادت أن تغطي فشلها في بعض الأحيان باللجوء إلى توجيه الاتهام إلى الفلسطينيين. وهو ما حدث في جريمة تفجير كنيسة القديسيين بالإسكندرية، وفي فتح السجون المصرية بعد الثورة، وفي اتهامهم بإطلاق النار على المتظاهرين في ميدان التحرير. وربما لجأت تلك الأجهزة إلى الأسلوب ذاته أخيرًا في التعامل مع قتل 16 جنديًا مصريًا في رفح. العامل الثاني يتمثل في أن الأجهزة التي كانت تنفذ سياسة النظام السابق وتعد التقارير التي تُرفع إلى المراجع العُليا لا تزال هي لم تتغير، وكل الذي تبدل هو قياداتها فقط. ولكن أساليبها تحتاج إلى وقت لكي تتغير. وأغلب الظن أن قرار هدم الأنفاق لم يتخذ الآن ضوء تقارير تلك الأجهزة. أفهم أن بعض القياديين الفلسطينيين في القطاع رفعوا سقف توقعاتهم بعد فوز الدكتور محمد مرسي بالرئاسة. ولم ينتبهوا بشكل كافٍ إلى حساسيات وتعقيدات الموقف المصري إزاء الموضوع الفلسطيني في ظل معاهدة السلام وتعهدات الرئيسين السادات ومبارك للأمريكيين والإسرائيليين، وعلى هؤلاء أن يخفضوا من سقف توقعاتهم، حتى إشعار آخر على الأقل، لكنني أفهم أيضًا أن التفكير الإستراتيجي في بلد كبير مثل مصر، يجب أن يضع اعتبارات الأمن القومي في المقام الأول، وألا يتجاهل الاحتياجات الاقتصادية للقطاع، بحيث يتعين عليه أن يضعها في المقام الثاني، علمًا بأن الاعتبارين لا يتعارضان مع المنظور الوطني النزيه. إن مصر الثورة إذا أرادت أن تستعيد مكانتها ينبغي أن تفكر بطريقة أخرى في التعامل مع محيطها.