قلت بالأمس إننا منذ فجر الاستقلال قد جبلنا على إصدار القرارات ثم إصدار قرارات بإلغائها. وهكذا «دواليبك» كما قال أحدهم. قبل سنوات لو تذكرون صدر قرار بالسماح للبنات بالعمل كعاملات في محطات الخدمة يقمن بتعبئة سيارات المواطنين بالبنزين والجازولين.. ولكن سرعان ما صدر قرار بإلغاء ذلك القرار وأن تعود كل بنت لبيتها عزيزة مكرمة. رجعت إلى منزلي وكان شاغلي أن أنفذ ذلك القرار طالما أنه يحفظ للمرأة عزتها وكرامتها. وقلت لزوجتي: طبعاً إنتي سمعتي أو قريتي القرار بأنو النسوان ما يشتغلوا في محطات الخدمة ولا الكفتريات ولا الفنادق ولازم نحنا نطبق القرار دا. فأجابت وهي تبدي شيئاً من عدم الفهم: ما فاهمة إنت عايز تقول شنو؟ عايز أقول إنو من اليوم دا ما عايزك تشتغلي في محطة خدمة ولازم نرفدك منها ... وغير مصدقة أجابت والدهشة تغطي وجهها: وأنا دخلي بالحكاية دي شنو؟ أنا قاعدة أشتغل في محطة خدمة؟ أجبت وأنا أحاول أن أشرح لها: هو مش في قرار صدر بالمعنى دا؟ أيوا. ومش لازم يتنفذ؟ أيوا وطيب وتصيح: وطيب شنو؟ إنت يا راجل داير تجنني؟ وأرد أنا بهدوء تام ودون انفعال: شوفي....القرار صدر ولازم يتنفذ.. وإنتي ليه ما عايزة تطيعي الله والرسول وأولي الأمر منا؟ وتصل زوجتي إلى قناعة: أنا غايتو ما عارفة... لكين إنت لازم تكون جنيت ولا اتخبلت.. بقيت تقول كلام ما مفهوم.. هسع الجاب طاعة الله والرسول وأولي الأمر منا دي شنو؟ ما لأنو شايفك الحكاية ما واقعة ليكي. أيوا ما واقعة لي.. طيب تقدر توقعا لي؟ وأجيب أنا وقد تهيأت لتوقيع تلك المسألة عليها برداً وسلاماً. أنا عارف طبعاً إنتي ما شغالة في محطة خدمة لكين عشان ننفذ القرار دا لازم نشغلك في محطة خدمة وبعدين نرفدك منها وكدا بنكون نفذنا القرار... يعني إنت عايز دلوقت تشغلني في محطة خدمة وبعدين تكلم صاحب الطلمبة يرفدني.. مش كدا؟ الله يبارك فيك.. أهو كدا إنتي عرفتي الموضوع لأنو ما ممكن نرفدك إذا كنت ما شغالة. وعايز تشغلني شنو في محطة الخدمة؟ عاملة مسدس طبعاً تكبي البنزين للعربيات.. وتجادل قائلة: لا أنا كدا ما بنفع معاي.. أنا ممكن أشتغل مديرة المحطة .. معليش لأني خريجة إدارة أعمال... وأصيح موضحاً ومستنكراً: لكين مديرة المحطة ما برفدوها... وإنتي لازم تشتغلي في وظيفة تترفدي منها. يعني مثلاً في كفتريا.. وتصر على موقفها: أنا غايتو غير مديرة ما بشتغل. ودا آخر كلام ليكي؟ أيوا دا آخر كلام لي. وأشعر بغضب شديد فهذه أول مرة تعاندتي فيها زوجتي وفي أمر قومي أشار به القرار.. وأحاول تهديدها: أسمعي أنا حأمشي من دربي دا أعرس لي واحدة أشغلها في محطة خدمة أو كفتريا وأرفدها. لأني ما بقدر أخالف القرار وما ممكن أخليه يقع واطة. تمشي تعرس ولا ما تعرس على كيفك.. غايتو أنا بشهاداتي دي ما مستعدة أشتغل أقل من مديرة. وأبدأ فاصلاً جديداً من الجدل: وإنتي بفرق معاكي شنو؟ ما أصلك حتشتغلي وحتترفدي؟ فتجيب: حتفرق معاي.. لأنو في السيرة الذاتية بتاعتي حيتكتب إني كنت شغالة ورفدوني ولما يعرفوا رفدوني ليه تفتكر تاني في أي جهة حتشغلني؟ هذه المرأة العنيدة.. لا ينفع معها منطق ولا توسل ولا رجاء ولهذا رأيت أن أدخل والدتها في الموضوع وقد كانت تصغي لهذه المحاورة باهتمام دون أن تتدخل وقد أقلقها أن تسمع حكاية الزواج مرة تانية لأنها لا تفهم أن يكون مثل هذا الكلام المقصود به التهويش فالمرحوم زوجها دون أي تهويش تزوج عليها. ولذلك عندما قلت لها: تفتكري ياحاجة كلام بتك دا معقول؟ لا لا يا ولدي ما معقول .. المرة لازم تعمل زي ما راجلها بقول ليها. وإنتي يا بتي أرضي بالوظيفة دي لحدي ما ربنا يفتحها عليكي ويرقوكي. يعلم الله الحاج أبوكي كان بشتغل محولجي في السكة حديد وصبر كدي لحدي ما لحق ناظر محطة. دحين إنتي طوالي دايرة تبقي مديرة محطة؟ وأصيح مؤمناً على كلام نسيبتي: أيوا يا حاجة دا الكلام... الله يفتح عليك. إننا نحن معشر أبناء هذا الجيل.. تزوجنا على غير طريقة آبائنا والذين كانت لهم سلطة مطلقة في البيت. وهم قد حسموا عملية تعدد الزوجات دون أن تحتج نساؤهم وعلى زمانهم لم تكن هناك زيجات تعقد في السر فكله في العلن. ويا ريتنا لم نتزوج هؤلاء النسوة بل تزوجنا أمهاتهن فهن أقل نقة وأقل معارضة. وترد زوجتي وقد أخذت تتضايق: يا يمة عليكي الله أسكتي ... إنتي ما عارفة الأمبليكيشن بتاع الحكاية دي شنو؟ دا راجل مخرف ساكت. فترد أمها بقوة: يبرى من الخرف. هو بتين كمان بقى للخرف؟ يبدو أن المناقشة مع زوجتي لن تجدي ولذلك أضمرت في نفسي شيئاً سأنفذه حتى أضع قرار كبيرنا موضع التنفيذ. ذهبت للسيد كرم الله صاحب محطة خدمة تربطني به علاقة صداقة منذ أيام الدراسة كما أنه كان سندي أيام المبيت في محطات الخدمة في السبعينيات إبان أزمة الوقود التي كانت مستفحلة لسنوات.. وبعد السلام والترحاب والماء والشاي بالسكر الخفيف حيث انتقل أبناء جيلي من منطقة السكر الثقيل الى منطقة السكر الخفيف إذ أن جميع الماكينات قد خفت، قلت موضحاً غرضي: شوف يا أخ كرم الله.. أنا جيتك في موضوع وما أظنك حتكسفني إن شا الله خير.. خير.... بس عايزك تشغل لي مرتي عندكم هنا في محطة الخدمة بتاعتكم.. ولم يصدق كرم الله أذنيه... فقال متسائلاً: يا خوي انت كنت برة البلد؟ لا.. طيب ما سمعت بالدنيا مقلوبة ... مش طلع قرار بمنع النسوان ما يشتغلن هنا؟ قلت: عارف .. وقريتو.. وسمعتو.. لكين أنا عايزك تعيِّن مرتي وبعدين ترفدها. وتبدو الحيرة على كرم الله: والله دا أغرب كلام.. نعيينها وبعدين نرفدها؟ دا كلام شنو دا؟ لأنو إذا ما كانت معينة.. ما ممكن ترفدها ولذلك لا بد تعيِّنها بعدين ترفدها. طيب.. والحكاية دي كلها مقصود بيها شنو؟ نعيِّنها .. بعدين نرفدها؟. عشان نطبق القرار.. ودا بستلزم إنه تتعيّن فى حتة وبعدين تترفد منها.. وهسع أنا جيتك تعمل لي الخدمة دي. ويوافق السيد كرم الله على مضض: غايتو دي حكاية أول مرة أسمع بيها.. الزول نعيِّنوا عشان نرفدو!! أجبت: إنت أصلو حتسمع بحاجات كتيرة بس قول يا لطيف والأمل ضعيف. وأخرج السيد كرم الله ورقة مروسة وقال طيب نكتب إنها اتعينت بتين؟ يعني قول اتعينت الليلة الليلة كيف؟ الليلة ما في تعيين.. لو عيناها الليلة حيعملوا معانا غاغا.. هو القرار صدر متين؟ قول عيناها قبل صدور القرار بيوم ونرفدها بعد صدور القرار. أهو كدا إنت عرفت الحكاية وعملت الواجب. وأخذت أوراقي التي تفيد بأن زوجتي قد تعيّنت عاملة مسدس بمحطة خدمة السيد كرم الله وإنها قد فصلت بعد صدور القرار. وهذا يعني أننا قد نفذنا القرار بحذافيره. حتى كان ذات يوم عندما كانت زوجتي تجمع الملابس للغسيل عندما عثرت على تلك الأوراق فصاحت غير مصدقة: دا شنو دا؟ أنا عايزة تفسير للحكاية دي ؟ وتقرأ من الورقة : إنه في يوم كذا قد تم تعيين السيدة فلانة عاملة مسدس ... والله عال .. ودي شنو دي كمان؟ وتقرأ من الورقة الثانية: إنه في يوم كذا تم فصل العاملة فلانة... يعني تعيِّنوا على كيفكم وتفصلوا على كيفكم.. ولا أخفي عليكم أنني كنت في حالة يرثى لها ولكني لم أعدم تبريراً إذ أنني قلت: وإنتي زعلانة ليه.. ما هو الحكاية دي كلها اتعملت عشان تعيبصون كرامتك فصاحت: تصون كرامتي أنا؟.. يا سلام عيك ومنو القال ليك أنا كرامتي عايزة صيانة؟ تعيِّنوا الزول بدون علمو وترفدوه بدون علمو وتجي تقول لي صيانة؟ وطيب لو عايزين تمرمطوا الزول تعملوا ليهو شنو؟ في الحالة دي نعيِّن الزول وما نصرف ليهو مرتبو وسكتت برهة وهي تسترد أنفاسها ثم قالت: على أي حال .. أنا تاني في البيت دا ما حأقعد... وأدخلت عدداً من الأجاويد والذين كانوا يبحثون عن كلمات يهدئون بها ثائرة زوجتي وإعادة المياه الى مجاريها مع تعهد مني بألا أفعل مثلها مستقبلاً .. وتم إطفاء الحريق إلا أنني في هذا اليوم الأغر الذي زرت فيه صديقي كرم الله بادرني بالسؤال قائلاً: إنت وين يا أخينا تلفونك ما بيرد وما عارفين نلم فيك.. قلت: إن شا الله خير. في شنو؟ قال: وين زوجتك ما جات تشتغل معانا؟ أهو شايف محلها فاضي. صحت: تشتغل كيف ما إنتو فصلتوها حسب القرار الجديد؟ أجاب: إنت قاعد وين؟ دا كان زمان.. دلوقت القرار اتلغى ومن بكرة دي تجي تستلم شغلها. آخر الكلام الفي الهوا وما بجيب حاجة: لا توقفوا الركشات.. ولكن الزموا سائق كل ركشة أن يزيل ما ركبه على عادمها من مفرقعات صوتية. حاربوا التلوث الضوضائي فإنه ضار بالصحة ويسبب التوتر.