درج الدفاع الشعبى على تسيير رحلات جوية وبرية قوامها قيادات دستورية عليا من سياسيين وتنفيذيين وتشريعيين وعسكريين وإداريين وشعبيين لمشاركة المرابطين فى الخطوط الأمامية بمسارح العمليات افراح العيدين من كل عام «العيد فى الخنادق». فى اول عيد بعد كارثة نيفاشا الأولى تولت رئاسة الجمهورية تسيير تلك الرحلات على ذات النسق وزادتها دعمًا ماليًا كبيرًا... يومها كنت ضمن وفد واو.. وقبل الفجر نودى علينا بالتوجه نحو الطائرة حيث تفاجأت بزحام على سلمها يكاد يُسقطنا ارضًا والغلبة فيه للشديد القوي، ولأن الطائرة كانت عديمة الإضاءة الداخلية كان الكل يتحسس له مقعدًا من ال 46 مقعدًا.. ورغم ان الوفد اقل من ثلاثين فردًا الا ان البعض ظل واقفًا بالممشى غضبان اسفًا.. عندها جاء الجاحظ يصيح فينا «يا جماعة الطيارة دى ماشة واو أى زول راكب غلط ينزل» لكن احدًا لم ينزل، فعاد ينادي فينا من جديد بحدة اكثر لكن احدًا لم يرد عليه ولم ينزل احد.. ثم نادى على احد صبيانه واعطاه كشف الركاب ليتلوه علينا وسط الضوضاء وعلى ضوء الموبايل فكان اول من نادى عليه «عبدرحمن محمد حسن سوار الدهب» لحظتها اقشعر بدنى ووقف شعر رأسي والغلام يصيح به مرة اخرى وجارى الذى يفصل بينى وبينه ممر الطائرة يجيبه بوقار «نعم» والغلام يكررها بعصبية للمرة الثالثة والتى لم استطع معها كبح غضبى حين انتصبت واقفًا لأصيح فيه بأعلى صوتى «يا ولد يا قليل الأدب.. عبدرحمن دا اخوك وألا ولدك وألا شغال عندك» وتوتر الجو واسقط فى يد الجميع فداحة المصيبة والجرم الذى ارتكبناه بحق رئيسنا الذى يجلس فى الصف قبل الأخير من الطائرة والتى صعد اليها بتلك الصورة المذلة والمهينة وهذا الغلام التعيس يصرخ باسم شخص لا يعرف قدر صاحبه وجلال موقعه فى قلوب العالمين «من اين جاء هذا الغلام ومن كتب ذلك الكشف الذى زينه بكل الالقاب العلمية والرتب العسكرية إلا سوار الدهب واين هى المراسم» ثم واصل قراءته وسط سكون قاتل وتوتر بائن ليقول الجاحظ «اى زول ما سمع اسمو ينزل» لكن احدًا لم ينزل ثم كرر قوله بعصبية واضحة «الكلام دا ما ليكم انتو ما بتسمعوا» فقالت الاخت رجاء حسن خليفة «انا جاية انابة عن اختى سامية احمد محمد» فقال لها اجلسى ثم قال آخرون «نحنا وفد هجليج وناس المراسم قالوا لينا طيارتكم منتظراكم فى الابيض» فرد عليهم بعصبية «نحنا ما نازلين الابيض.. يلا انزلوا» فنزلوا والغضب يكسوهم ويكسونا.. ساعتها قام المشير سوار الدهب لينزل وهو يقول ان رئاسة الجمهورية اخبرته ان هذه الطائرة سوف تنزله فى الأبيض لأنه مسافر لشأن آخر.. فتقدم منه الجاحظ معتذرًا عن هذه الفوضى قائلاً» نعم يا سعادتك ح ننزلك فى الابيض» فوالله ما رد عليه الا بكلمتين «كان ممكن الترتيبات تكون احسن من كدا» فقلت للجاحظ «طيب ليه تكضب على وفد هجليج وتقول ليهم ما نازلين الابيض» فصاح بى «اسكت يا زول».. فقلت «اسكت انا.. وانت ذاتك منو عشان تسكتنى.. والجابك هنا شنو يا زول» ومضيت لباب الطائرة لأنادى على وفد هجليج لكنهم كانوا قد تواروا فى صالة المغادرة عائدين لأهلهم لتقلع بنا الطائرة فى ذلك الجو المتوتر حيث لا طرفة ولا انشاد ولا ونسة ولا صلاح معنويات.. وقدمت نفسى للمشير معتذرًا عما حدث والذى يحدث لأول مرة فحمّلنى تحياته للمجاهدين واعتذاره لهم بأنه لا يدرى عن هذا البرنامج شيئًا وانه لو دُعي اليه لأجاب... ونزلت معه مطار الابيض لاجد طائرة هجليج رابضة فى انتظارهم وفق ما قالت به رئاسة الجمهورية... ولكن !!!؟. وفى معسكر المجاهدين بواو استقبلونا بالتهليل والتكبير والجلالات التى تقشعر منها الابدان وتميد بها الارض وترددها الجبال الشوامخ لتنطرح الوجوه بعد العبوس وتحل السكينة بعد التوتر وترتاح الانفس بعد القلق لكن الجاحظ تقدم منى قائلاً لي «قول لى جماعتك ديل يبدلوا كلامن دا خلاس البلد جاها السلام» فقلت له «يا زول انت منو والجابك منو وداير شنو.. وبعدين تعليماتنا ما بتجينا منك». فى طريق العودة للخرطوم سألنى احد الاخوة عن اسباب التوتر بينى وبين الجاحظ فقلت لا ادرى من هو وماذا يريد فقال الا تعرفه قلت لا قال لى انه «هناي» احد مفاوضي نيفاشا فاستحلفته بالله اهو هو فقال انه هو فرفعت يدى بالفاتحة على بلد لم تجد فى بنيها الا هذا الذى لا يستطيع ترتيب طائرة لرحلة واحدة.. ما بالنا يرتب لنا ولبلادنا المنكوبة به وبأمثاله امر دولتنا وحاضرنا ومستقبل اولادنا... حسبنا الله ونعم الوكيل . تابعته الأسبوع الماضى هو واخوانه من اولاد نيفاشا «الذين دخلوا الخرطوم لواذا فى رحلتهم السابقة» ها هم اليوم وقد فى ركاب الرئيس منتفشين تمامًا بإتفاقية «نيفاشا الثانية» التى هى اشد فتكًا بنا من نيفاشا الاولى.. ما هو الجديد فيها.. تفكيك الفرقتين التاسعة والعاشرة وترسيم الحدود وابيى والمشورة الشعبية والجوار الآمن... أليس هذا ما اتفقتم عليه فى نيفاشا الاولى وعجزتم عن انفاذه.. ما هى الضمانات الا تفرطوا فيه مرة اخرى.. الآن تتشدقون فى وسائل الإعلام وتنتفشون علينا باسترداد بضاعتنا المدفوعة بثمن باهظ فى نيفاشا الاولى بعد ابتزاز آخر وبثمن جديد «البترول والحريات الاربعة التى اصبحت مواطنة عديل» حتى قال قائلكم نرحب بها وان بلغت اربعين.. نقول برفضها ولو تقلصت لواحدة... امسكوا عليكم السنتكم فما انتم بأهل قتال ولا دواس ولقد تواريتم فى حوارى الخرطوم وازقتها عن ملحمة هجليج يوم خرجت حتى اخواتنا من خدرهن فلم نجدكم لا فى اهل السند ولا فى اهل السنان تمامًا مثلما فقدناكم فى ساحات الفداء من قبل ومن بعد... وليس لأحد منكم اكثر مما لدينا فى هذه البلاد التى كلما رفعنا راياتها بالعزة والنصر نكستموها بالذل والانكسار.. الا يكفينا تفريطكم فى اسعار البترول «من 35 دولارًا الى 11 دولارًا» وهل كان البترول الا دماء الشهداء وعرق المجاهدين ودموع الأرامل واليتامى. الآن نستلم استحقاقنا فى نيفاشا الاولى «انسحاب الفرقتين التاسعة والعاشرة» ولكن بثمن جديد «الحريات الاربعة التى لا يمكن نقضها ولو نقضت الاتفاقية.. وتمرير البترول بثمن بخس» وتم تأجيل النظر في «ترسيم الحدود وابيى» لنيفاشا الثالثة والتى ستكون ايضًا بتنازلات مذلة ومهينة وثمن جديد.. ثم تتوالى النيفاشات حتى تقضى علينا مزعة مزعة. أخى الرئيس... ناشدتك الله.. والشهداء.. والأشلاء.. والعهد الموثق بالدماء.. والأرامل واليتامى.. وبالقرآن حرفًا حرفًا... ان تبعد عنا هؤلاء الذين فرطوا فى ارضنا وثرواتنا وكرامتنا.. ثم يبشروننا بالمزيد من التنازلات والانكسارات. أخى الرئيس وانت فينا القوي الأمين.. فكما بشرتنا مسبقًا بعدم توقيع اى اتفاق لا ينال الرضى الشعبي... ولئن كان رئيس الجمهورية الذى لا يحكمنا الا لأربعة اعوام يعرض على استفتاء شعبي فإن هذه الاتفاقية التي تحكمنا الى يوم القيامة اولى بالاستفتاء حتى يتحمل الشعب مسؤولياته سلامًا بعزة او حربًا بثمن مستحق.. فلسنا بطير مهيض الجناح ولن نستذل ولن نستباح... فهذه اكفاننا على اكتافنا وصوابعنا لم تفارق الزناد ولن تفارقه حتى تغادر هاماتنا الأجساد..