إذًا يكون للنجاح طعم ومذاق خاص إذا ولد بمخاض المعاناة ولا ندري كيف يكون مذاقه عندما يولد من رحم المستحيل وبالفاقة والعدم والشح وقصة النجاح التي نتناولها عبر هذه المساحة قد لا تكون منطقية ولكنها واقعية جسدت بشكل عملي بناء جسر من الأمل فوق بحر من اليأس تتمدد مساحة هذا الإشراق ما بين رمال (دار حمر) بكردفان ومن قرية وادعة تسمى (صباع الجمل) وفي العام (1957م) خرج إلى الوجود صاحب التراجيديا التي قهرت المستحيل وتحدت الصعاب فكانت الخلاصة ما بين العمل في مصانع البسكويت بالعاصمة وحراسة الدكاكين وبوابات المحاكم جاء (الدكتور حامد آدم محمد نايف) فما هي قصته وما هي قصة الدكتوراه التي تحصل عليها في اللغة العربية. ٭٭ صورة ذهنية للدكتور كنت قد رسمت صورة ذهنية قبيل مقابلة (الدكتور حامد) الذي يعمل خفيرًا بمحكمة النظام العام وسط أم درمان وحقيقة لم تبعد ما رسمت من صورة عن واقعه فقد قابلنا رجلاً نحيفًا تبدو عليه البساطة في كل شيء.. ملبسه.. تعامله مع الآخرين، إبتسامته التي يوزعها بلا ثمن لكل من حوله على جلبابه أكثر من أربع (رقع) تمت حياكتها بدقة بحيث لا يمكن معرفتها إلا بالتدقيق حولها ولا أظن سببًا لترقيع الجلابية إلا لأنها واحدة ولأنه يعمل خفيرًا ينادونه ب (عمَّك( بدلاً من (الدكتور( على العموم وبعد معاناة برفقة الأستاذ علي الصادق البصير وزحف طويل وسط سوق أم درمان دخلنا محكمة جنايات السوق وترقية البيئة وعند المدخل حوالى الساعة الخامسة مساءً التقينا الرجل الذي التفت إلينا بدهشة وحبور عندما ناديناه بكلمة يا دكتور وهي كلمة يستحقها ولم يسمعها عما قريب فالجميع هناك ينادونه ب (عمك( جلسنا إليه بتلك الكنبة الطويلة المصنوعة خصيصًا للمنتظرين من مخالفي جرائم النظام العام ورائحة براميل المعروضات (الخمور البلدية) كانت تحيط بكل جنبات المحل وفي هذا المكان أجرينا المقابلة التي نوجزها عبر هذه الأسطر. ٭٭ عرِّفنا بك دكتور حامد في البدء أشكر لكم هذا المسعى وبحثكم عني ووقوفكم معي اسمي حامد آدم محمد نايف من مواليد ولاية شمال كردفان عام (1957) قرية (صباع الجمل( ضاحية النهود التي تقع جنوب منطقة ودبندة وشمال منطقة غبيش (دار حمر( درست الابتدائي في مدرسة صباع الجمل ثم التحقت بالمعهد العلمي في المرحلتين الثانوية والمتوسطة سنة (1983) ثم التحقت بجامعة أم درمان الإسلامية عام (1992) ثم درست الدبلوم العالي جامعة النيلين تخصصت لغة عربية دراسات نحوية صرفية وتخرجت فيها سنة (1998) ثم انتقلت إلى مرحلة الماجستير. ٭٭ حدثنا عن قصة الماجستير وكيف تمت مناقشته؟ أستطيع القول بأن رحلتي العلمية الشاقة كانت شاقة جدًا اعترتها الكثير من الصعاب والتي أفقدتني كثيرًا من أيام عمري وحقيقة لست من النادمين فقد حققت حلمي باجتهادي ونلت ما أُريد بفضل الله تعالى وأشكره على ذلك ولعل أكثر ما كان يلاقيني من مصاعب هي مسألة الحصول على المراجع فقد كانت رسالتي تحت عنوان (جهود بن جني في الدراسات الصرفية من خلال كتابه المصرفي( وهي دراسة معقدة اخترتها لصعوبة وسلاسة البحث فيها والمعروف عن ابن جني كان المتنبي يحترمه ويقول فيه: (هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس، وكان إذا سُئل عن شيء من دقائق النحو والتصريف في شعره يقول: سلوا صاحبنا أبا الفتح). ٭٭ أكمل لنا صعاب الماجستير؟ أكبر المصاعب التي واجهتني كما قلت لك هي مسألة التمويل من حيث كنت أعاني من أجل الحصول على مرجع أو كتاب يساعدني في رسالتي ومرت بي أيام عجاف تذوقت فيها طعم المرارة فقد صمت وواصلت الصيام لأوفر قيمة مرجع أو كتاب أو حتى قيمة تصوير مرجع وأحيانًا انتظر زملائي من أجل استلاف ورق التصوير وأحيانًا لا أجد ثمن التصوير حتى الجأ إلى الكتابة والمشوار كان طويل جدًا حيث استغرقت الرسالة أكثر من ثلاث سنوات. ٭٭ كيف انتقلت للدكتوراه؟ انتقلت للدكتوراه في ذات الاتجاه الذي حصلت به على الماجستير وكان ذلك في العام (4002م) وقد جاءت الدكتوراه حول موضوع فلسفة اللغة العربية النحو والصرف وهي رحلة علمية تعتبر امتدادًا للماجستير اعتبرها أقل صعوبة من الماجستير باعتبار أنني تعودت على التقشُّف والظروف الصعبة وقد ناقشت بعد ثلاث سنين نسبة لظروفي المادية فقط. ٭٭ متى التحقت بالقضائية؟ بعد التخرج لم أجد وظيفة للالتحاق بها فلم أجد سوى وظيفة خفير بالهيئة القضائية والتي التحقت بها منذ عام (1996) حتى الآن براتب قدره «90» جنيهًا آنذاك ولم يكن الراتب كافي. ٭٭ كم عام قضيته خفير في القضائية؟ ستة عشر عامًا. ٭٭ ما الذي دفعك للتفكير في مواصلة دراستك؟ من خلال عملي كان الجو ملائمًا لمساعدتي في مواصلة دراستي نسبة لطبيعة العمل الليلي وقد ساندني مدير إدارة الجهاز بالخرطوم مولانا أبو حسبو عبد المجيد ومولانا إسماعيل موسى القاضي لهم جزيل الشكر. ٭٭ ألم يتعارض العمل مع الدراسات العليا؟ أبدًا العمل مهد لي كثيرًا في مواصلة مشواري العلمي وكان المشرف على رسالتي الدكتور محمد المهدي بجامعة الخرطوم وكنت أذهب إليه في منزله لاعانتي وشرح ما يصعب عليّ استيعابه وكان مشكورًا يقابلني بكل رحابة صدر حتى إنه تبرع لي بمبلغ «200» جنيه لكي تعينني في رسالتي. ٭٭ بعد حصولك على الدكتوراه لماذا لم تغيِّر مهنتك؟ لم يحالفني الحظ بالقبول في أي وظيفة داخل العاصمة مما أدخل اليأس إلى قلبي، لأن التقديم داخل العاصمة مرتبط بالتقدير وكان تقديري جيد لذلك أجد صعوبة حتى لجأت إلى التقديم خارج البلاد حيث لا توجد اشتراطات في التقديم وسعيت قبل شهرين للتقديم في وظيفة أستاذ مشارك بجامعة الطائف وباءت بالفشل. ٭٭ من المحررة هذه الرواية الواقعية تصلح أن تكون سابقة بالقضائية ولا أعني تلك السوابق الإجرامية بقدر ما أعني السابقة الإنسانية لتجربة فريدة حكت فصولها معاناة رجل مثابر لخصت قصته مذكرة سرية رفيعة كتبها أحد السادة القضاة مخاطبًا فيها رئاسة الجهاز القضائي بقولة (لا يمكن أن يكون خفيري من حملة الدكتوراه.. نوصي له بوظيفة لائقة)، ولكن القضائية وللأسف ليس لديها وظائف لعلماء اللغة العربية انتهى.