لم يجد بعض مواطني دول الجوار مساغاً إلى بغيتهم، ولا مجازاً إلى حاجتهم، إلا في دوحتنا التي ذوت نضرتها على وهج التكالب، وذابت حشاشتها على عرك الازدحام، فالعاصمة التي جادت بالوبل، وهطلت بالغيث، وأذنت بالخير، لا تضاهيها عاصمة في مناهج الخِلة، وعقود الوفاء، وسُبل المصافاة، فالغريب كثير السقط والهنات يجد أن جرائره وزلاته قد أقالها مُقيل، وأصفح عنها صافح، وأغضى عنها مقضِ، فالسوداني الذي شرفه الله بتلادِ مجد، ورفعة نجْر، وإيثار تفضل، يوغل في اقالة العثرات، ويمعن في الصفح عن الزلات، ويسهب في تغمد الهفوات، حتى اكتظت ردهات عاصمتنا وعرصاتها بلسان معسول، ونفس شحيحة، وغيم وعده جهام. إنّ الدول التي أرست جبال الجود، وأيدت أواخي الكرم، وأحصفت مرائر السماحة، لا تخلع على الغريب ما يخلعه أهل هذا البلد المضياف على الغرباء، فالغريب عندنا مقرب باتحاف، مكرم بألطاف، معهود بحفاوة، لأجل ذلك يُرى وجهه يفيض من السعادة، ولحظه يومض من الجذل، وثغره يفتر بالابتسام، لأن الأقدار كفلت له وطناً آخر يغمره بمدد النعم، وجزيل الإحسان، وشمول الآلاء، وأنى لهذا الغريب ألا يستتب من الفرح، ويتجدد من الحبور، ويتسق من الغبطة، ويومه يمضي، وشهره ينقضي، وعامه يتصرم، وهو محاط من صرف الردى، محروس من كل أذى، والدولة التي نابتها خطوب الزمن، وتخونتها أحداث الليالي، قد رمقته بلحظ رعايتها، وحفته بجميا إنعامها، وأغدقت عليه بالحريات الأربع التي وهبت له من الجلالة وأعطته من النباهة ورفدته من صنوف البر ما لم يكن يحلم به في وطنه الذي ينحدر منه. إن الحديث الأشيع في المحافل والأذيع في المجالس والأسير في الآفاق، يدور حول من وهبتهم حكومتنا المشبل الأياد العظيمة، والهبات الجسيمة، والنِعم التي يفوق عددها الاحصاء، فمن انسلخ عن كينونة الوطن الواحد وقبع في السودان القامة بعد ميلاد دولته، جاد عليه الحزب الصمد بمنح لم تطف قط على خلده، فليس هناك فرق بينه وبين مواطن الشمال إلا حق الاقتراع، وحكومة الغريب الذي ارتضى الانفصال عوضاً عن الوحدة دأبت على تقويض أمن البلد الذي يمنحها كل شيء، ولولا جيشنا الجسور الذي حنكته التجارب ووقرته الأحداث وهذبته الصروف، لصال أوغاد الحركة الشعبية في ربوع مدننا وقرانا، لقد قمعت قواتنا الباسلة الطامع الخسيس الذي أخلقت جِدّته، وانكسرت شوكته، ولانت عريكته، لأجل ذلك سعى الغرب البغيض إلى أن يحقق له انتصاراً ناعماً يذهب عنه وطأة الهزائم التي تجرعها في الهيجاء. إنّ الحريات الأربع «المواطنة الآن» كسفت البال، وأزرت بالرجاء، وخيبت الظنون، لأنها تكفل لمن لا يُتقى شحناؤه، ولا تؤمن بوائقه، أن يغمر المسافات الشاسعة والديار الشاحطة والطيات البعيدة، بالشر الوبيل واللؤم الجزيل.