لقد غدر وأجرم متمردو قطاع الشمال بالحركة الشعبية في جنوب كردفان وأطلقوا عدة صواريخ تجاه مدينة كادوقلي قتلت عدداً من الأبرياء من النساء والأطفال، وجرحت آخرين بلا ذنب جنوه أو جريرة اقترفوها. وكما ذكرت في المرة الفائتة فإن هذا القطاع يحمل في هذه الأيام حقداً وغلاً لتجاوزه وإهماله وعدم التفاوض معه في أديس أبابا، ولذلك فإنه وكرد فعل غاضب سيسعى بشتي السبل ومختلف الوسائل للضغط على الحكومة ليجبرها على إجراء مفاوضات معه تقاسمه بموجبها السلطة والجاه، وفي سبيل ذلك لن يتواني في الإتيان بأي سلوك ذميم وجرم قبيح، ولا يهمه كثيراً إذا أزهقت أرواح أبرياء لا ذنب لهم اغتيلوا غيلة وغدراً، ويريد أيضاً إحداث فرقعات إعلامية. وبالطبع لا أحد عاقل يريد الحرب والجميع ضدها ويتوقون للسلام، ولكن كيف التوصل إليه في ظل تحرشات المتمردين وغدرهم واعتداءاتهم على الآمنين المسالمين وقتلهم بتوجيه وتحريض من قادتهم المتكئين على الأرائك الوثيرة بعيداً عنهم. وقد أُقيم في كادوقلي ملتقى أطلق عليه اسم «ملتقى كادوقلي للسلام» ولم تتمكن القيادات الاتحادية بالمركز من حضور جلساته، وفي اليوم الأول للملتقى أطلق المتمردون صواريخهم، وفي هذا رسالة للوالي والمؤتمرين بأنهم ضد هذا الملتقى، وأنهم لا يعترفون بالوالي ومن معه، وأنهم لن يكفوا عن أعمالهم العدوانية، أي أن الوالي حاول أن يرفع في وجوههم أغصان الزيتون ولكنهم رفعوا في وجهه دانات الحرب. وإن قادة قطاعهم كانوا وما فتئوا يطالبون بضرورة إقامة معسكرات تنفق عليها المنظمات الأجنبية شبيهة بمعسكرات دارفور ويغلفون ذلك بإدعاءات إنسانية، ومن يدعى العطف الإنساني زوراً لا يمكن أن يقتل الأبرياء بطريقة عشوائية همجية دون ذنب جنوه كما حدث في كادوقلي. وبعد دحر التمرد في النيل الأزرق عينت الحكومة في تلك الولاية والياً مكلفاً هو اللواء الهادي بشرى، وهو من غير أبناء الولاية، وبالتالي فإنه لم يكن جزءاً من الصراع الذي كان دائراً فيها بين المكونات السياسية الذي كان يحدث أحياناً حتى داخل حزب المؤتمر الوطني بالولاية، ومن أهم واجبات الوالي ومهامه المكلف بها بسط الأمن بجانب مهامه الأخرى، فإن ولاية جنوب كردفان بحاجة ماسة في هذه الظروف لتطبيق نفس التجربة، كما أن السيد أحمد هارون في نظر الآخرين لا يمكن أن يكون خصماً ووسيطاً في وقت واحد، والطرف الآخر لا يثق فيه، ولن ينسى مرارة نتائج الانتخابات التي مازالت مترسبة في أعماقه. ولعل لسان حاله يردد ما ورد في الأسطورة على لسان ثعبان وهو يقول لرجل يريد أن يصالحه: «لن نتصالح لأنك لن تنسى ابنك الذي قتلته أنا، ولن أنسى أنا ذنبي الذي قطعته أنت»، والابتسامات البلاستيكية المتبادلة أحياناً لا تعبر عن المشاعر والمواقف الحقيقية «إذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنن أن الليث يبتسم»، والحقيقة السافرة التي لا جدال حولها أن قيادة حزب المؤتمر الوطني في المركز هي التي وافقت واختارت مرشحيها لمواقع الولاة في كل الولايات، وبآلية السلطة وقدرات الدولة فازوا جميعاً، ولكن ليس لأي والٍ من الولاة الحاليين أن يدعي أنه لم يفز بسند من التنظيم والحزب والدولة، وإزاء ذلك إذا اقتضت الضرورة إحالة أحدهم لاستراحة محارب أو تحويله لموقع آخر بعد إقناعه في دهاليز مراكز اتخاذ القرار، فأحسب أنه سيقدر الظرف الذي أدى لاتخاذ هذا القرار. وفي تقديري أن المستجدات الأخيرة التي أعقبت توقيع الاتفاقيات في أديس أبابا والتي نصت فرضاً على وجوب فك الارتباط بين قيادة جيش الحركة الشعبية بدولة الجنوب والفرقتين التاسعة والعاشرة بجمهورية السودان وتسريحهما ونزع السلاح منهما، ومن ثم يتم إدماج الذين كانوا فيهما للقوات النظامية السودانية، أو إيجاد بدائل لهم توفر لهم العيش الكريم، فإن تهيئة الأجواء وإزالة الاحتقانات ورواسب الانتاخابات الماضية تقتضي ضرورة تعيين والٍ مكلف جديد بمواصفات تقتضيها المرحلة، فيها جمع بين الحكمة وسعة الصدر والأفق وبين الحزم والشجاعة والإقدام والقدرة على دحر كل معتد أثيم أو متمرد لئيم، كما أن القاضي أحمد هارون مهما أبدى من التودد وحسن النوايا فإنه محل رفض الطرف الآخر، ويمكن أن يعهد إليه موقع تنفيذي أو غيره على المستوى الاتحادي. وبهذا يتجاوز الطرفان عقدة نتائج الانتخابات السابقة التي تركت بين الطرفين جراحاً غائرة. أما قطاع الشمال فإن كثيراً من الذين كانوا منضمين إليه قد لزموا الصمت وتفرغ الكثيرون منهم لأعمالهم، وبالطبع أن من حقهم بوصفهم أفراداً التعبير عن رؤاهم، وهذا حق أصيل وليس منحة من أحد، وليس لهم تنظيم أو حزب مسجل عند مفوضية تسجيل الأحزاب، ومن حقهم تسجيل حزبهم وممارسة العمل السياسي السلمي وإصدار صحيفة أو صحف تنطق باسمهم إن أرادوا، ومن حقهم خوض الانتخابات القادمة على كل مستوياتها من رئاسة الجمهورية حتى اللجان الشعبية القاعدية، ومن حقهم بعد تكوين حزبهم وإجازته رسمياً أن يفاوضوا النظام الحاكم ليشاركوا أو يعارضوا كما يفعل الآخرون في كل الأحزاب الأخرى، ولكن ليس من المروءة والأخلاق أن يسعى بضع أفراد من قطاع الشمال للوصول للسلطة بإجراء مفاوضات تقوم على المساومة بأرواح أبناء جبال النوبة وأبناء النيل الأزرق، يعني إما أن يتم معهم اقتسام السلطة والجاه وإما أن تظل نيران الفتن مشتعلة «يا فيها يا أطفيها». ومن الشواهد على ذلك ما حدث بمدينة كادوقلي أخيراً، إذ قُتلت نساء بريئات وأطفال أبرياء لا ذنب لهم.. ونرجو أن تؤوب كل الأطراف لصوت العقل.