فريق ركن ابراهيم الرشيد علي { ما المقصود بالحدود المرِنة؟ { ومن هو العدو المحتمَل المهدِّد لأمننا القومي؟ الحدود الدولية لأي دولة هي مصدر همّ كبير للدولة وليس هناك ما يشغل السلطات الأمنية في أي دولة أكثر مما يشغلها تأمين حدودها مع جيرانها. والدولة التي لها حدود ممتدَّة مفتوحة لمسافات طويلة لا تحكمها موانع طبيعية مع جيرانها يصبح تأمين تلك الحدود هاجسًا كبيرًا لهذه الدولة خاصّة إذا كانت العلاقات مع تلك الدول غير مستقرَّة. السياسة العسكرية لأي دولة في المستوى الإستراتيجي القومي وفيما يتعلق بالأمن القومي لا بد أن تتحسَّب للتهديدات المحتمَلة التي تأتي من خلف الحدود إذ أن التهديد للأمن القومي لأي دولة يأتي عبر الحدود وبالتالي فإن تقدير الموقف السياسي والعسكري يجب أن يشمل في بنوده دراسة وتحليلاً دقيقًا لجميع العدائيات التي يمكن أن تأتي من خلف الحدود ولا بد أن تشمل تلك الدراسة العدو المحتمَل «The Potencial Enemy» قدراته وطبيعة الأرض وشكل التهديدات التي يمكن أن تقع. { للسودان حدود تمتد مع سبع دول مجاورة إضافة إلى الحدود مع البحر الأحمر الذي يُعتبر مانعًا طبيعيًا يشترك فيه السودان مع دول أخرى.. وحدود السودان مع تلك الدول تصل في مجملها إلى أكثر من سبعة آلاف كيلومتر تقريباً أطولها مع دولة الجنوب الوليدة إذ أنها تزيد على ألفي كيلومتر. { تُصنَّف دول الجوار خلف تلك الحدود حسب العلاقات التي تربط بين الدولتين الجارتين «دول شقيقة أو صديقة أو معادية»، والدولة المعادية هي التي تُصنَّف عسكرياً بالعدو المحتمَل.. ولكل دولة عدوٌّ مُحتمَل خلف حدودها من المحتمل أن يهدِّد الأمن القومي ويصبح لا بد من دراسة وتحليل حجم ذلك التهديد وإعداد تقدير موقف إستراتيجي وعمليات لمجابهة التهديدات المحتملة للأمن القومي من العدو المحتمَل.. ولا بد من وضع الخطط التفصيلية مسبقاً ويتم التدريب عليها نظرياً وعملياً بالجنود وبدون جنود، داخل الغرف على الخرائط ومناورات مفتوحة على الأرض.. وإذا أردنا أن نصنِّف دول الجوار لوطننا والتي كان معظمها خلال القرن الماضي في حالة عداء مع السودان يتفاوت بين دولة وأخرى حتى كان من الصعوبة بمكان تحديد العدو المحتمَل بدقة، والشاهد على ذلك ما صرَّحت به وزيرة الخارجية الأمريكية عندما قالت في مؤتمر إفريقي جامع سنهزم السودان من جيرانه وكانت تعتبر معظم جيران السودان في حالة عداء معه.. تبدَّل الحال كثيراً وأصبحت العلاقات مع دول الجوار في معظمها علاقات طيبة ومستقرة خاصة مع الدول العربية المجاورة بعد تغيير أنظمتها الحاكمة، ومع دول الجوار الشرقية تقوم على تعاون اقتصادي وأمني متميِّز، ومع دولة تشاد التي كانت مصدر تهديد كبير أصبحت العلاقات معها متميِّزة وتقوم على ترتيبات أمنية غير مسبوقة اكتمل من خلالها تكوين قوة عسكرية مشتركة بين الدولتين يتم تبادل القيادة فيها بين الدولتين خلال فترات معلومة من حيث المقر ومكان انفتاح القوات وهي الآن الحامية للحدود بين الدولتين. الشيء المؤسف أن الحدود الوحيدة التي أصبحت مصدر تهديد مستمر ومؤكَّد ومُعلَن هي الحدود الجنوبية لوطننا مع دولة الجنوب وكان يُفترض أن تكون أكثر الحدود أمنًا واستقراراً يقوم على تعاون مشترك بين الدولة الأم والدولة الوليدة التي انفصلت وكانت الدولة الأم أكثر عطاءً وسخاءً معها وأول المعترفين بها بعد نتائج تقرير المصير. أصبحت دولة الجنوب الوليدة بكل المقاييس هي العدو القائم الآن بتهديد أمننا القومي فعلياً وهي ستظل العدو المحتمَل مستقبلاً حتى ولو حلحلت المشكلات القائمة الآن. إن دولة الجنوب رهنت إرادتها بالتمام لأمريكا وأصبحت هي المتبنِّية لأجندتها وكان ذلك واضحاً خلال فترة التمرُّد كما كانت علاقاتها مع إسرائيل معروفة بالرغم من إنكار قادة التمرد لتلك العلاقة خلال الفترة الانتقالية، ولكن بعد تحقيق الانفصال فإن أول زيارة متبادلة كانت بين إسرائيل ودولة الجنوب. { إذاً دولة الجنوب هي المصدر الأساس للعدائيات تجاه الشمال الآن وهي التي تغذِّي جميع الحركات المسلحة وتقدِّم لها الإيواء والإمداد ووسائل الحركة والدعم السياسي الخارجي.. ودولة الجنوب هي العدو المحتمَل ضد السودان مستقبلاً مهما تحسَّنت العلاقات طالما تبنَّت أجندة الغرب وإسرائيل. إننا نسمع في خطاب الحكومة والمعارضين ونقرأ في مقالات الكُتاب استخدام لفظ الحدود المرِنة وهو تعبير جديد أصبح الناس يستخدمونه دون تحديد تعريف له ودون التعمُّق في مآلاته.. لا يوجد في قاموس العلم العسكري والسياسي ما يُعرف بالحدود المرِنة وهذا التعبير بصورته هذه يمكن أن يُستخدم كما يحلو لمستخدمه.. ليس هنالك شيء اسمه حدود مرِنة، فالحدود يجب أن تكون لها ضوابطها وقوانينها واتفاقياتها المتبادَلة والمحترمة بين الدول.. وليس هنالك دولة تحترم شعبها وسيادتها تجعل حدودها مرنة لكل عابر سبيل، والدولة التي تفعل ذلك لا بد أن تندم على ذلك يوماً.. وقد مرَّ السودان بتجربة الحدود المفتوحة أو سمِّها المرِنة إن شئتَ ودخل السودان من دخل مَن هارِب ومتآمر على دولته ومُصنَّف على أنه إرهابي وأصبحنا نعاني من ذلك حتى اليوم وأصبح بلدنا مصنفًا على أنه دولة إرهابية. إن اعتبار دولة الجنوب تهديدًا قائمًا فعلياً لأمننا القومي لا يحتاج إلى جهد في التفكير، وإنها ستصبح العدو المحتمَل مستقبلاً حتى ولو حُلَّت جميع المسائل العالقة، إذ أن شعب دولة الجنوب وقادتها يحملون في جيناتهم روح التوتر والعداء والتربُّص وتبني أجندة غربية وإسرائيلية معادية. لذلك الحذر واجب وعلى قواتنا المسلحة أن تضع ذلك في الاعتبار وأن يُدرج الاتجاه الإستراتيجي الجنوبي مصدر تهديد قائم الآن وتهديد مُحتمَل لأمننا القومي مستقبلاً وأن يُضمَّن ذلك في الرواية الافتراضية للتدريب التعبوي في جميع مراحله من تدريب الطالب الحربي إلى المستوى الإستراتيجي في الأكاديميات العسكرية العليا. إن الوضع الماثل على الحدود يفرض أن تُستبدل رواية «أتير» الافتتاحية براوية «منقو».