نيفاشا التي وصفت باتفاقية السلام الشامل، وهي لم تكن كذلك، فقد تركت مسائل غاية في الأهمية معلقة دون أن تجد لها حلاً، وقد ساعدت نيفاشا في تطور وتدويل قضية دارفور، كما أنها أشعلت الحرب في جنوب كردفان والنيل الأزرق!! ولو نجحت نيفاشا في أمر واحد وبنسبة مائة في المائة، فإن ذلك الأمر هو فصل الجنوب وقد نصت نيفاشا على سحب الجيش السوداني من كل الجنوب وهو رمز السيادة الأول على الأرض كما أنها أعطت حق تقرير المصير لجنوب السودان!! وكالعادة السودانية المقيتة والتي تستند إلى المقولة البلدية «الشينة منكورة» يحاول البعض درء هذه الشينة عن نفسه، واتهام آخرين بالتسبب في الانفصال، رغم أن أي رمز للسيادة على أرض الجنوب قد أزيل تماماً منذ التاسع من يناير (2005م) ولم يرفرف علم السودان منذ ذلك التاريخ على أي مرفق حكومي في الجنوب، كما أن الذي صوّت في الاستفتاء هم مواطنو جنوب السودان!! وفي الحقيقة أن نيفاشا اتفاقية غير قابلة للتطبيق، وليس أدل على ذلك أنها لم تكن تعبِّر عن رغبات أي من الطرفين المتنازعين فهما لم يشاركا في وضع بنودها، بل أنها صممت في هايدلبرج في ألمانيا ووضع لها السيناريو الأخير في ((Csis في واشنطن وحتى قوانينها تمت صياغتها بواسطة خبراء قانونيين من جنوب إفريقيا والتي أصبحت فيما بعد دستوراً تمت إجازته وتلك كانت خطيئة كبرى، إذ أنها أكدت أمر خطير وتهمة لا أساس لها وهي أن السودان يمارس التفرقة العنصرية، وهذا ما لم يكن حقيقة، وما لا يحتاج إلى إثبات، فالمواطن الجنوبي مارس كل أشكال الوظائف والأعمال رسمية كانت أم خاصة دون أي تفرقة لا في المرتب إن كان عملاً حكومياً أو في الكسب إذا كان عملاً خاصاً!! من الأخطاء التي حفلت بها نيفاشا أنها لم تضع السيناريوهات في حالة الوحدة أو الانفصال بل كان الرهان على الوحدة الجاذبة، والجاذبة هذه مصطلح لا يُستخدم في السياسة إنما في الأشعار الرمانتيكية ونقصان نيفاشا من سيناريوهات الوحدة أو الانفصال، هو ما أدى إلى الوضع الذي يعيشه الآن كلا من السودان ودولة جنوب السودان وزاد على ذلك النقصان أدراج المناطق الثلاث التي تغلي الآن في القضية إرضاءً لأفراد من تلك المناطق، وإغماطاً لحقوق قبائل لا أحد يدري ماذا سيكون مصيرها!! للسودان الشمالي حدود معروفة ومعترف بها دولياً، تنازلنا عنها ورضينا بحكم محكمة لاهاي وفرح الجميع وطبلوا، بينما رفض قاضي أردني التوقيع على الحكم لأن فيه ظلماً كبيراً للسودان!! نيفاشا التي رقصوا لها وسموها اتفاقية السلام الشامل بدأت بالتوترات التي دامت ست سنوات مع أحداث وخروقات دامية وتوتر صرف من ميزانية البلاد أكثر مما صرفت الحرب وبرروا ذلك بأن السلام ثمنه غالٍ. وكما أتت نيفاشا من واشنطن جاء ما يسمى باتفاقية أديس من أمريكا أيضاً ولكن هذه المرة من نيويورك حيث تم التوقيع عليها بأمر من مجلس الأمن تحت قرار كان كالسيف المسلط تحت البند السابع وما أدراك ما البند السابع!! وجاء من جنوب إفريقيا أمبيكي يسعى ولا عجب فقوانين نيفاشا والدستور جاءا من هناك، كذلك كان لزاماً على الوسيط أن يكون من ذات البلد!! وطالما تخلى السودان عن حدوده التي يعرفها كل العالم فإن أمبيكي وجد الحق كل الحق في أن يرسم خارطة على مزاجه ويصادق عليها مجلس الأمن!! وفي أول سابقة في العالم نجد أن دولتين انفصلتا عن بعضهما البعض وحدودهما مبهمة على مدى أكثر من ألفي كيلومتر طولي، وحتى اتفاق أديس الذي صمم لدرء أخطاء نيفاشا القاتلة، أضاف إليها أخطاء أخرى، حيث تم تدويل أراضٍ سودانية على مسافة ألفي كيلومتر بعرض أربعة وعشرين كيلو متراً!! وهذا يجعل من مسألة الحدود سبباً في نشوب حرب إقليمية تقوم الدبابات فيها برسم الحدود، بدلاً من هندسة المساحة!! كيف يمكن أن تقوم علاقات سياسية واقتصادية بين دولتين في مناخ تتنازع فيه ذات الدولتان الحدود بينهما!! كل الذي يجري الآن يقصد منه تفتيت السودان، وقد ذكر ياسر عرمان هذا في يوم توقيع بروتوكولات نيفاشا وقال إن هذا النموذج سيطبق على دارفور والشرق والمناطق الثلاث، وقد بدأت أزمة دارفور تتصاعد متزامنة مع توقيع نيفاشا، وها هو السفير الأمريكي يمرح في الشرق، كما فعل روبرت ماكنمارا في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي حين زار بورتسودان وحلايب ووادي سيدنا والفاشر ثلاث مرات وهو ضابط في الجيش الأمريكي وهو وزير دفاع وهو مدير البنك الدولي الأمر يهدد بانفصالات قادمة!! فإذا كان جنوب السودان قد انفصل وفي انفصاله مخالفة صريحة للقانون الدولي الذي ينص على أن تقرير المصير يعطى للأمم ذات الثقافة واللغة المشتركة وهذه المادة لا تنطبق على جنوب السودان لا من قريب أو بعيد، وطالما أن القوانين وضعت بواسطة خبراء من جنوب إفريقيا وبمباركة وتوجيهات أمريكا لتمزيق السودان فليذهب القانون الدولي للجحيم!! ربما أقتنع على مضض بفرحة النظام الحاكم بما يوقعه من اتفاقيات مفروضة خوفاً وطمعاً في رضى أمريكا عنه، لازاحته من كشف المبشرين بنارها، وضمه لكشف المبشرين بجنتها وهذا كي أطمئن النظام إن تم فسيتم في فترة أقلها ربع قرن من الزمان حينها سيصبح السودان في خبر كان ناهيك عن نظام حكم تجاوزت أعمار أركانه السبعين عاماً!! ولكن الذي يدهشني حقاً هو مباركة الأحزاب السياسية لهذه الاتفاقيات، ولكن الدهشة تزول عندما تدرك أن غرض هذه الأحزاب وفهمها لما تم توقيعه من اتفاقيات أنها ستخلصهم من نظام الحكم بعد أن أصابهم العجز التام بمواصلة المعارضة لإسقاط النظام، حتى تلك المعارضة اللينة التي اقترحوا أن تقودها ربات البيوت!! والمؤسف أيضاً أن الكثير من الكُتاب الذين يقع عليهم عبء حمل رسالة السلطة الرابعة، تركوا أمر مستقبل البلاد ومصيرها المهدد بالفناء إلى معارك جانبية فيما بينهم، وجعلوا بأسهم فيما بينهم شديد وهذا لا يفيد السودان في شيء بل يعجل بمصيره المظلم!! الروح القومية ضعفت إلى درجة الوهن، والوهن هو سبب زوال الأمم، لماذا التناحر بالكلمات والسباب، في حين أن في كل بلدان العالم ثوابت يتفق عليها الحاكم والمعارض ولا يختلفان فيها، رغم اختلاف وجهات النظر في كيفية السياسات التي تبقى على هذه الثوابت. إن الذي يجري كيده على السودان يهدد بازاحته من الخارطة السياسية والجغرافية، ولكن يبدو أن الثوابت في عصر الوهن هذا ما عادت ذات الثوابت، وحل مكانها ما يعرف فقط في السودان دون غيره.. ملعون أبوكي بلد، وهذا أمر لعمري معيب!!