بسم الله الرحمن الرحيم رحلة فوق خوازيق نيفاشا (2) محمد عبد المجيد أمين ( عمر يراق ) [email protected] استكمالا للمقال السابق تحت نفس العنوان ، نورد فيما يلي نماذج لبعض \" الخوازيق\" : 1-خلقت الاتفاقية منذ البداية دولة محتملة(prospective State) داخل دولة قائمة وجعلت لكل شريك حكومة: واحدة منفصلة تتبع للجنوب تقع تحت سلطة رئيس حكومة الجنوب وحده (لها جيشها وعلمها ونشيدها الخاص وبعثاتها الدبلوماسية ) وأخري مشتركة تتبع للشمال . 2- لرئيس حكومة الجنوب صلاحية وسلطات علي حكم الجنوب والشمال معا.. باعتباره النائب الأول للرئيس، بينما لا يحق للرئيس التدخل في حكم الجنوب ..!! . يلاحظ أن توزيع السلطات هذا ليس له ما يبرره ويبعث علي الدهشة ويبدو أنه تكريس مسبق للانفصال. أمثلة : أ-منحت الاتفاقية للنائب الأول للرئيس صلاحيات قومية سيادية بينما لم تمنح الرئيس أي صلاحيات مباشرة علي حكومة الجنوب ، كما قيدت الاتفاقية صلاحيات الرئيس بعدم اتخاذ قرارات محددة دون موافقة نائبه الأول ( راجع المرفق رقم ج 1 من الاتفاقية) من ضمنها \"قرار أعلان الحرب\" !!. ب-بالرغم من الصلاحيات التي منحت للنائب الأول في حكومة الشمال القومية فقد كان بالامكان، لو مارس سلطاته الدستورية حسب منطوق الاتفاقية والدستور الانتقالي اذابة كل الجليد المتراكم بين الشمال والجنوب وجعل الوحدة ، كما يقولون.. جاذبة ، الا أن ذلك لم يحدث وآثر المكوث معظم الوقت في جوبا ، لا ندري حقا لماذا فعل ذلك..؟!! أبسبب زهده في مراوغات حكومة الشمال وأنه قد تم تهميش دوره كنائب أول للرئيس ، أم أنه كان مبيتا العزم علي الانفصال ، خاصة بعد غياب الراحل جون قرنق من الساحة السياسية؟!!. 3-وفقا للقوانين الدولية فان المشكل السوداني لا يصنف ضمن النزاعات الدولية وانما هو نزاع نشأ بين طرفين داخل حدود دولة واحدة وقد عرّف البروتوكول الثاني لحماية ضحايا النزاعات غير الدولية بأنه:\" نزاع تدور أحداثه على اقليم أحد الأطراف المتعاقدة بين قواته المسلحة وقوات مسلحة منشقة أو جماعة نظامية مسلحة اخرى ، واقرّ مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدولة حتى لا يكون القانون الانساني مطيّة للتدخل في الشؤون الداخلية للدولة\". رغم وضوح هذا القانون وبناء اتفاقية السلام الشامل علي أساسه بوصفه نزاعا داخليا ، فان أطرافا خارجية سعت وتسعي حتي الآن لتدويل المشاكل السودانية وتستخدم الضغوط والاغراءات مع كل الأطراف للوصول الي هدف محدد ،وهذا مخالف لمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية لمثل هكذا نزاعات. 4-وضعت الاتفاقية في اطارها العام في صياغة سياسية أكثر منها قانونية ، فالمعروف أن نصوص القانون له دلالات ومفردات محددة في التفسير ويبتعد عن أي غموض لفظي تجنبا لاحداث أي ثغرات تخترقه أو تخضعه للتأويل. 5-أسست الاتفاقية علي \" استهلال \" وبروتوكولات (وعددها4) واتفاقيات ( وعددها 2) تم ابرامها في أزمنة ومواقع مختلفة لحل مشاكل سياسية وليس قانونية وشملت هذه البروتوكولات والاتفاقيات مع الاستهلال المرفق جمل وعبارات انشائية ومصطلحات قانونية\" مبهمة \" قابلة للغو. مثال : ورد في الجزء أ : المبادئ المتفق عليها 1-3 \"شعب جنوب السودان له الحق في تقرير المصير وذلك ضمن أمور أخري ، عن طريق استفتاء لتحديد وضعهم مستقبلا\". وعندما نقرأ نفس البند في النسخة الانجليزية نجد أن الترجمة جاءت علي النحو الآتي : 1-3\"That the people of South of Sudan have the right to self-determination, inter alia, through a referendum to determine their future status.\" يلاحظ في النص الانجليزي أن كلمة “ inter alia" هي مصطلح قانوني لاتيني المصدر يستخدم في المرافعات بمعني \" من بين أمور أخرى\" لتعيين جزئية محددة من النظام الأساسي وليس كل النظام ، الا انها يمكن أن تقرأ اصطلاحا ب \" من بين أمور أخري\"أو \" من جملة أمور\" وتترجم \" among other things\" وحيث أن هناك فاصلة بعد كلمة تقرير المصير “ self-determination"ستقرأ : شعب جنوب السودان له الحق في تقرير المصير،في جملة أمور،من خلال استفتاء لتحديد وضعهم المستقبلي. وهذه بحد ذاته نص مربك وقابل للتأويل .... اذ لم يحدد ... ما هي \" الأمور الأخري\"؟ ، كما أن كلمة \" وذلك ضمن أمور أخري \" في النص العربي تعتبر أكثر ارباكا وتفتح أبوابا كثيرة للتأويل تحت مسمي \" ...ضمن أمور أخري\". وبما أن الأساس المرجعي للاتفاقية هو النص الانجليزي دون النص العربي فانه ما كان ينبغي اقحام لغة ثالثة حتي ولو قصد منها تعزيز الاصطلاح وان كان قنوني الدلالة ، ولو كان لهذه العبارة من معني محدد لأرفق معها مذكرة تفسيرية تشرح لنا ماهية الأمور الأخري وحدودها. 6-بخلاف الجداول المرفقة وصفحة تصويب الأخطاء المدرجة في النص العربي لم تعزز الاتفاقية بأي ملاحق أو مذكرات تفسيرية تدعمها وتسند بنودها بخطوات واجراءات قانونية واضحة وملزمة ، ولو وجدت لأزالت الكثير من الغموض واللبس الذي اكتنف بعض البنود ، وهذا أمر بديهي يعرفه رجالات القانون . أمثلة : 1- مصطلح الوحدة الجاذبة هو كلمة فضفاضة ليس لها قواعد او آليات قانونية تحدد ملامحها وتجعلها ملزمة وقابلة للتنفيذ ، كما يذهب في هذا المنحي مصطلح \" الحكم الراشد\". 2- يعتبر مصطلح المشورة الشعبية الوارد في بروتوكول جنوب كردفان والنيل الأزرق الأكثر غموضا وضبابية في الاتفاقية وذلك للأسباب الآتية: أ-لم يحدد البروتوكول ولا القانون الصادر من حكومة السودان بالخصوص في 2009 اي من الآليات والكيفية التي سيتم بها اجراء الاستطلاع العملي لمعرفة آراء مواطني النيل الأزرق وجنوب كردفان ، فيما اذا كانت الاتفاقية قد حققت طموحاتهما أم لا ..!! كيف يجمع رأي الناس..؟ هل بالاستكتاب المباشر كالانتخابات ، أم سيكتفي برأي أعضاء المفوضية المنتخبة للمشورة الشعبية.... وهل هو فعلا يمثل آراء كل المواطنين؟! وهل ستكون الآراء سياسية الطابع أم عملية قابلة للتنفيذ؟. ب-ورد في جدول تنفيذ هذا القانون ما نصه \" اخضاع الاتفاقية الشاملة لارادة شعب المنطقتين\"...كيف يمكن ذلك وارادة الشريكين السياسية مهيمنة علي كل الاتفاقية من الداخل بينما ارادتهما السيادية منتزعة من الخارج!! فأعضاء الحركة الشعبية في أي من الولايتين ينحازون لرأي الحركة وأعضاء المؤتمر الوطني ينحازون لرأي حزبهم!! والأغلبية من مواطني الولايتين لايفقهون في هكذا أمور ويحتاجون الي توعية مكثفة للتعريف بماهية \" المشورة الشعبية\" وفيما \"يستشار\" ؟. والنص عموما \" اخضاع الاتفاقية الشاملة لارادة شعب المنطقتين\" لا يعتبر قانونا مصحوبا بخطوات اجرائية محددة وانما صياغة انشائية مضخمة . ج-قصد بقانون المشورة الشعبية اجراء استطلاع عملي لمعرفة اراء شعبي النيل الأزرق وجنوب كردفان في مدي تنفيذ الشريكين للاتفاقية سلبا كان أم ايجابا وفيما اذا كانت الاتفاقية قد حققت طموحاتهما وفقا لمحاور السلطة والثروة والجوانب الاقتصادية والاجتماعية وهذا التقييم موكول بالأصل الي الشريكين والي لجانهما المكلفة بالتنفيذ وتقييم الأداء الدوري والي المراقب الدولي ( الأممالمتحدة) وشهود الاتفاقية ، وهؤلاء جميعا هم المصادر الحقيقية لتحديد درجات التقييم وهم الذين يستطيعون الاجابة علي السؤال الذي يطرحه قانون المشورة الشعبية ، الا اذا قصد به غرضا خفيا لم يوضح ضمنا ، لا في الاتفاقية ولا في القانون الصادر بالخصوص، وعموما يبدو أن هذا البند قد اقحم اقحاما في نصوص الاتفاقية ولم تتبين عيوبه الا عند بدء التنفيذ. 7-تورطت الحكومة في تحكيم لاهاي بالنسبة لحدود منطقة أبيي ، اذ ما كان لها أن تلجأ الي المحكمة أصلا بالنسبة لترسيم الحدود الادارية وفقا لما حددته الاتفاقية بالنسبة لوضع أبيي، والا فهو اعتراف مسبق بالانفصال وبدولة الجنوب ، فكما هو معروف، ان اتفاقات ترسيم الحدود هو شأن خاص بالدول المتجاورة يتم حل النزاع والتحكيم فيه بين دولة وأخري ، من هنا يمكن الاحتكام الي لاهاي وعليه ، لايمكن اعتبار الحركة الشعبية بمثابة دولة بعد ، لا الآن ولا حتي باعتبار ما سيكون لحظة نشؤ النزاع وانما هي حكومة مؤقتة داخل منظومة دولة قومية حسب توصيف الاتفاقية. يلاحظ أيضا أن الاتفاقية نفسها قد حبذت التفاهمات السلمية قبل اللجوء الي القضاء 8-لم تحدد الاتفاقية أي حدود جغرافية علي الأرض لقوات الحركة الشعبية بالنيل الأزرق وجنوب كردفان فيما كان بالامكان تضمين ذلك في بند التسريح واعادة الدمج أو بند الترتيبات الأمنية، وفي ظل وجود قوات مشتركة كما نصت عليه الاتفاقية يصبح وضع هؤلاء الجنود غامضا، اذ ليس لهم مكان ولا مهام واضحة علي الأرض. 9-وجود ضغوط دولية قبل وأثناء وبعد توقيع اتفاقية السلام الشامل وربما الانحياز لطرف علي حساب الطرف الآخر مما أضعف الارادة الوطنية ، وفي رأي الشخصي أن هناك ثمة سيناريوهين وضعا قبل توقيع الاتفاقية وضمنا في بنود ظاهرها فيه الوحدة وباطنها فيه الانفصال، وهما علي النحو الآتي : أ-السيناريو الأول ( في مقابل الوحدة) : محاولة ازاحة النظام الحالي وكل ما يتعلق بالاجندة الاسلامية من خلال طرح برنامج السودان الجديد في شكل خطوط عريضة دون تحديد ملامح تفصيلية. وذلك اذا ما استجابت الحكومة لهذا النهج ( وهذا لم يحدث لأن واضعي السيناريو كانوا يعلمون تماما أن الشريعة هي الورقة الوحيدة التي يتعلق بها الشريك ). ب-السيناريو الثاني( تكريس الانفصال) : الاستفادة من مماطلة وتنصل المؤتمر الوطني من تنفيذ بعض الاستحقاقات واستهوانه بالشريك الثاني وثقته الزائدة في النفس مقابل تباطؤ وتلكؤ الحركة الشعبية في الاستجابة لبعض المتطلبات بل والاعتراض والمقاطعة كسبا للوقت ولحين موعد اجراء الاستفتاء فتمارس الضغوط علي الشريك الأول( وهذا ما يحدث الآن). 10-اصرار الحركة الشعبية علي ضرورة تخلي المؤتمر الوطني عن موضوع تطبيق الشريعة ( وهي غير مطبقة أصلا) وتشكيل دولة علمانية مقابل الوحدة ، وهذا مطلب استفزازي ورد ما يدحضه في بنود الاتفاقية التي احترمت الخصوصيات. \" 6-1 الديانات والعادات والمعتقدات هي مصدر للقوة المعنوية والالهام بالنسبة للشعب السوداني\". \" 3-2-3 التشريعات التي تسن علي الصعيد القومي والتي تتأثر بها الولايات خارج جنوب السودان مصدرها الشريعة والتوافق الشعبي\". بنود مقيدة : \" 2-6 تمتنع الأطراف عن أي شكل من أشكال الغاء أو ابطال اتفاقية السلام من جانب واحد\". بنود لم تؤخذ بعين الاعتبار عند التنفيذ: 1-5-1 اقامة نظام ديموقراطي للحكم يأخذ في الحسبان التنوع الثقافي والعرقي والديني والجنس واللغة والمساواة بين الجنسين لدي شعب السودان. 11- كان من المرتجي أن تقدم الاتفاقية – اذا ما نفذت علي وجهها الصحيح- أن تكون ليس أملا فقط وانما انموذجا يحتذي لحل النزاعات وما نراه علي الأرض الآن يبدو مختلفا تماما ويتجه وجهة أخري غير متوقعة ، وان من يقرأ المقطع التالي يري أنه لا يمكن أن يكون نموذجا يحتذي به طالما أنه يعزز شقة الخلاف ويؤدي الي الانفصال بين كيانات البلد الواحد: \" وهكذا يقران معا أن اتفاقية السلام ليس فقط الأمل ولكن أيضا نوذج يحتذي به في حل المشاكل والنزاعات الأخري في الوطن.\" لم يكن هذا الا عرضا سريعا لما يمكن أن نعتبره من \" الخوازيق \" التي وردت في اتفاقية السلام الشامل وبقدر ما نلوم شريكي الاتفاقية علي تقاعسهما الواضح في تنفيذ التزاماتهما وأنانيتهما المفرطة التي أودت بالبلاد الي منحدر صعب - نسأل الله أن ينجينا منه- فاننا نلوم أنفسنا أيضا كوطن وكشعب أن سمحنا بهذه المهازل أن تحدث دون أن نحرك ساكنا، وتغافلنا عن حقوقنا،بل وفرطنا فيها ورضينا بالذلة والمهانة علي تراب أرضنا بتخلينا عن أبسط المبادئ والحقوق التي كفلها الله للعباد وتركنا مصيرنا رهينة بيد الحكام ،يلعبون به كيفما يريدون.. ،هذا والله أعلم وهو من وراء القصد. الدمازين في :22/10/2010م. محمد عبد المجيد أمين ( عمر براق) [email protected]