بعدما انقضت آخر أيام وليالي التشريق في الثالث عشر من شهر ذي الحجة لثلاث وثلاثين وأربعمائة وألف للهجرة النبوية الشريفة.. ودّع دنيانا هذه الفانية الشيخ الجليل والبروفيسور النبيل صاحب العلم الأصيل والرخصة والتسهيل وحامل التنزيل، شيخي وأستاذي وخالي البروفيسور د. أحمد علي الإمام، بعدما استعد للرحيل بالرقاد الطويل، فذهب إلى لقاء ربه طاهراً نقيّاً يؤنسه في قبره القرآن، وتتزين له الحور في الجنان، ويدنيه من عرشه الرحمن. فقد كان خُلقه القرآن. رحمه الله رحمة واسعة وجعل الجنة مُتقلبه ومثواه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. ومع العناية والرعاية والاهتمام التي توليها بلادنا للقرآن الكريم ومشائخه ومسائده وقرائه ومقرئيه وطلابه، تبدو الحاجة ماسة لزيادة الاهتمام بالروايات المتواترة والمنتشرة في ربوع بلادنا، وأولها «رواية ورش عن نافع» أول ما كان يُلقن بها «الحيران» خاصة في شمال السودان ودارفور، بوقفها وابتدائها ورومها واشمامها.. وإظهارها وإدغامها ومدها وقصرها.. وفتحها وإمالتها.. وترقيقها وتغليظها. وكان احتفاء الإمام الراحل أحمد علي الإمام برواية «ورش عن نافع» لافتاً، لا غرو فهو يعدُّ من أشهر الحفظة والقراء برواية «ورش» على مستوى العالم الإسلامي قاطبة، إلى جانب فضله وسبقه وريادته واسهاماته التي تجل عن الحصر في مختلف ضروب الحياة الأكاديمية والتربوية والدعوية والسياسية والاجتماعية، وتتحدث عنه انجازاته العديدة في مجال الفُتيا واجتهاداته الكثيرة وأسفاره العديدة، وليس هذا محل ذكرها.. ولما كان «الإمام الراحل» يعمل بتجرد ونكران ذات، كان لابد من تجسيدٍ لهذه الأعمال الخيّرة بتأسيس مركز يُعنى بتحفيظ وتجويد وتدريس القرآن الكريم برواية «ورش» لينطلق منه الحفظة يملأون رحابنا، علماً ونوراً ويعطرون مساجدنا تلاوة وطلاوة وحلاوة «برواية ورش» ويرفدون المكتبات المرئية والمسموعة والمقروءة.. «أنا احتفظ في مكتبتي الخاصة بعدد لا بأس به من المصاحف برواية «ورش» أهدانيها جميعها الإمام الراحل، ومنها مصحف جيب صغير خاص بالشيخ الإمام كان هديته لي في آخر زيجة لي عقد لي قرانها، وأوصاني بأن لا تكون الأخيرة.. على العكس من نصيحة الأستاذ مهدي إبراهيم بأن أجعلها الأخيرة». كان ذلك قبل ثماني سنوات خلت «وتلك الأيام نداولها بين الناس»، فقد كنا في مثل هذه الأيام تماماً ونحن عائدون من رحلة الحج والزيارة في معية السيد الرئيس «حفظه الله» فكثيراً ما كان يدعو له الإمام الراحل بأن يحفظه الله. «اللهم أحفظ بلادنا وقادتنا واملأ رحابنا علماً ونوراً». ولن يتردد السيد الرئيس في إصدار قراره بانشاء مركز الإمام ورش ليضم متحفاً جامعاً لكل المقتنيات من مصاحف مخطوطة وألواح ومتعلقات بكبريات خلاوى القرآن، وأولها خلوة فكي هارون بجزيرة مقاصر حيث تلقى الشاعر الراحل صلاح أحمد محمد «إبراهيم»، والشيخ بشير هارون «بشير» وعلي محمد «عبد الله» .. الإمام فإبراهيم وبشير وعبد الله إخوان .. جدهم ساتي سلمان أبو دلق المدفون في الدُّفار. واشتهروا بأولاد «جوّى». وهو اسم أنثى من نسل الملك فارس آخر ملوك الجوابرة، على عادة أهل الشمال الذين يكثر بينهم الانتساب للأمهات، وخلاويهم مشهورة بمقاصر، ومن أبنائها بشير والد فكي هارون، وعبد الله جد الإمام الراحل، وإبراهيم جدي والد الفكي محمد والد الشيخ أحمد محمد إبراهيم والد صلاح. ونقترح أن يضم المركز تراجم للمشائخ المؤسسين واللاحقين، ومكتبة حديثة تضم كل ما صدر في علم القراءات لتخرج من حيز التدوين والمشافهة إلى حيز التصنيف والتأليف والتوثيق لمختلف حقب دراسة القرآن الكريم وتدريسه في بلادنا وغيرها من بلاد الإسلام. ولتكن أهداف المركز تحفيظ وتلقين القرآن برواية «ورش» لوصل الأجيال الحالية والمستقبلية بهذه الرواية والمشاركة بها في المسابقات والمهرجانات المحلية والعالمية، وإحياء صلوات التهجد والقيام في شهر رمضان الكريم، والتوثيق للخلاوى والمساجد والمشائخ الذين يعتمدون رواية ورش. وتخريج طلاب يحملون شهادات معتمدة من المركز.. وليس آخراً الوفاء لأهل العطاء، ويا له من عطاء ذلك الذي قدمه الإمام الراحل طوال حياته العامرة بالخير وجلائل الأعمال. ومن غير شك فإن الكثير من المؤسسات والمنظمات والدول وكبار الشخصيات العاملة في مجال الدعوة، ستقدم دعمها لمثل هذا العمل الجليل بعد مبادرة السيد الرئيس بإقامة المركز الذي سيمثل إضافة مقدرة لكل المؤسسات العاملة في خدمة القرآن الكريم في بلادنا، وغيرها من بلدان العالم الإسلامي. اللّهم إن عبدك أحمد قد وفد إليك بعدما أتم الناس مناسكهم، ونحروا هديهم، وقدموا أضحياتهم، فلم تشأ إرادتك أن يفسد رحيله على الناس أعيادهم، فقبضته إليك راضياً مرضياً ولسانه رطب بذكرك، صابراً محتسباً على بلائك.. اللهم فاكرم نزله، ووسع مدخله، ونقِّه من الخطايا كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس، وأغسله بالماء والثلج والبرد يا خير منزول ببابه.. وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.. ولا نقول إلا ما يُرضي الرب.. إنا لله وإنا إليه راجعون.. والحمد لله فقد تحققت وصيته الأخيرة وكان جلباب الدمور القديم الذي شهد به الكثير من «الخِتمات» كفنه الذي خرج به من الدنيا.